لابد أن نفرق بين مستويين : الأول مستوى "الواقعية" السلبية التي تتعدى تفهم حقائق الواقـع واستيعابها إلى مستوى "الاستسلام" للواقـع كما هو والتحجج به كحالة "نهائية" وقاعدة يمكن التحاكم إليها وعليها ، و لو آمن بذلك المصلحون ورواد التغيير في العالم و طلاب المجد لما تحركوا قيد أُنملة من مواضعهم ومواقعهم ولما قرأنا في صحائف المجد إسما ، والحقيقة أن أي إرادة للإنجاز والتغيير تتطلب رفضا للواقـع وفضا للإستسلامية التي يمليها بحجة كونه "واقعا" ملموسا مشاهدا ، والثاني مستوى "الواقعية" الإستيعابية .. وهي تلك الواقعية التي تستوعب معطيات الواقـع في حركتها ولكنها تستهدف كسرها وتغيير خريطة اللعبة الواقعية وفرض واقـع جديد لكن عبر تفهم أدوات الواقع وطبيعته .
- إن إضمار الرفـض والبغض للواقــع طريـق أساسية للتغيير و إحداث التحولات ، فاليهود في العالم تحولوا من كونهم أكثر الطوائف بغضا واستضعافا و نبذا ، إلى أهم المتحكمين في عصب العالم وسياسته واقتصاده عبر الكفر أولا بواقعهم وثانيا اللعب بأدواته لتفكيكه لصالح نموذج "مُتخيل" في أذهانهم وكتبهم وأيديولوجياتهم كان وقتها مثارا للسخرية من الواقعيين "الاستسلاميين" والذين هم اليوم يطالبون "المقاومين" بالاعتراف بإسرائيل كعملية واقعية وحقيقة ملموسة ، ولكن منهج الرفض للواقـع لا يعني مطلقا انتفاء رؤيته أو التعامل معه ، بل هو إعلان تأسيس للمرحلة القادمة .
- إن خسارة المعارك حقيقة لا تكون في الهزيمة الميدانية فقط ، إنما يتبعها بروتكول إعلان "استسلام" يطلبه المنتصر من المهزوم لإعلان إتمام النصر ليعترف بكل معطيات الواقع الجديد وشروطه و الاندماج في مرحلة مابعد الهزيمة ، أما إذا لم يرض الخاسر الاعتراف بالهزيمة والتراجع الميداني الحاصل لصالح العدو وحول ميدان المعركة لمكان آخر ، سواء بعد هدنة أو بدونها ورفـض الاعتراف "رسميا" بكل الهزائم وان كانت واقعيا حاصلة ورفض قبول شروط الخصم واعطاءه مشروعية وجود .. فهو بذلك حول الهزيمة إلى مجرد جولة خاسرة في معركة متكونة من جولات .. وبالتالي أعطى للمعركة بعدا جديدا واستمرارية أكبر .. وبهذا يكون قد تجاوز نسبيا مرحلة الهزيمة
- إلا أن تجاوز الهزيمة لا يأتي مطلقا بالإصرار على ذات الطريقة والتكتيك الذي ربما تسبب في الخسارة الأولى ، فهذه عنترية رعناء ، ولا بالتمسك بكل عناوين المرحلة السابقة التي ربما أفسدت مناخ المعركة ومنحت العدو فرصة للتأهل والحسم ، إن تجاوز الهزيمة منوط بإعادة إعداد وإعادة قراءة للمتغيرات الميدانية و أيضا عملية حصر واقعية للخسائر و تحليل سليم لأسباب الهزيمة ، وتخطيط جيد للمرحلة الجديدة بناء على ماسبق ، وبدون ذلك يتحول الاستمرار في المعركة إلى مجرد حالة نفسية تسمى حالة الإنكار