في خريف 1918م، كانت الحرب العالمية على مشارف الانتهاء، ولاح السلام في الأفق، وقد شاركت أمريكا في هذه الحرب، وجمعت دول التحالف ضد ألمانيا داخل الخنادق، وعاش المجندون في أجواء قاسية لدرجة أنهم اعتقدوا أنه لا يوجد حال أسوأ من هذه، وفجأة أُصيب العديد من المجندين بمرض كان شبيهًا جدًا بنزلات البرد، ولكن المرض أثبت أنه أقسى من ذلك، حيث توفي نصف القتلى الأمريكيين في أوروبا أمام الوباء، وليس في مواجهة العدو، وتم تقدير القتلى ب (34) ألفاً من المشاركين في الحرب.
معركة (الباسفيك)، حيث تسببت الملاريا في القضاء على عدد من الجنود بلغ (8) أضعاف الذين قتلوا في المعركة.
وكان هناك حدث أقل شدة أثناء الحرب الأمريكية الأسبانية، هو القصة الفظيعة ل "فورت ستتبرج"، والذي كان موقعه في سفح التلال على بعد (66) ميلاً شمال غرب "مانيلا"، وكان هذا المكان معروفًا بأنه مكان الحشرات والآفات التي تسببت في الملاريا في الجيش الأمريكي؛ فقد أُنشئ عام 1902م بعد الحرب، ثم بني فيه مستشفى سنة 1904م، فمن بين كل (1000) من القوات الأمريكية، كان هناك (730) مصابًا. وفي عام 1905م كان هناك (800) جندي، مَرِضَ منهم (377) في مستشفى الملاريا، وكان السبب الرئيس وراء هذه الكارثة أن النهر كان يغذي بعوض (الأنوفيليس) في المجموعة المصغرة.
في عام 1983م، حدثت عملية (بدون رقيب)، عندما أنزلت الولايات المتحدة قواتها في (جرانادا) ولم تعطهم الوقت الكافي للبحث والاستعداد، فلم يتم الحصول إلاّ على القليل من المعلومات الاستخباراتية، فقد تهدد الجيش بالحشرات والنباتات السامة والمياه غير الآمنة؛ وكان للحرارة الاستوائية أثر كبير على الجيش، مما أدى إلى سرعة خروجه من المنطقة لأنه تعرّض لمخاطر العمليات في الأدغال، وكان من الممكن تغيير نتائج العملية لو روعيت هذه النقاط:
الافتراضات غير الصحيحة بإمكانية وجود ماء عذب هو أحد أهم أسباب فشل هذه العملية.
قلة التركيز من القيادة على أن تستهلك القوات المعدلات الكافية من شرب الماء لتعويض ما افتقدوه خلال العملية، وبالتالي فقد العديد من الجنود قدراتهم بسبب الجفاف.
كان يجب استخدام ملابس الأدغال في العمليات، فقد كان زي (لباس) المعركة شديد الحرارة على الأفراد، كما أنه كان ثقيلاً في تلك البيئة الاستوائية.
قلة الإمدادات الدقيقة بالمبيدات الحشرية اللازمة، كان له أثرٌ بالغٌ في زيادة عدد النمل المفترس العدواني.
كان على القوات الأمريكية اتخاذ الحيطة والحذر من النمل المفترس حتى يمكنهم من حماية أنفسهم.
لم تبتعد القوات الأمريكية عن شجرة (المانش نيل) السامة، فقد تسممت أجسام العديد من أفراد القوات عند توغّلهم بين أفرع الأشجار، ثم فكرت قيادة العملية سريعًا في الأمر، وبدأت تعطي واقيًا للجلد وأدوية لعلاج الحالات المصابة، ونبّهت على أهمية الابتعاد عن هذه الأشجار السامة، لأن سكان هذه المنطقة كانوا يتجنّبون هذه الأشجار وثمارها، لأنها يمكن أن تسبب الحساسية والحكّة في الجلد والعين.
وهناك الكثير من الأحداث عبر التاريخ التي تدل على قلة الحكمة، والتسرّع باتخاذ القرار من قِبَل القائد قبل جمع المعلومات المتعلقة بتلك المنطقة.
ومن الأمثلة السابقة يتضح لنا أهمية دور الاستخبارات الطبية في المحافظة على صحة وسلامة الجيش في المعركة، سواء من الناحية الاستراتيجية أو التكتيكية، وذلك على النحو التالي:
1. نجاح أي قوة في منطقة ما، هي جمع المعلومات (مسببات الأمراض، والعوامل المؤثرة على أداء الجندي في ميدان المعركة كالطقس، والموقع الجغرافي، والوقت) المتعلقة بتلك المنطقة، وهي ما يسمى بالاستخبارات الطبية.
2. خفض نسبة انتشار الأمراض والإصابات التي تلحق بهذه القوات بخلاف تلك الناشئة عن المعارك.
03 زيادة القدرة الإنتاجية للقوات لأداء المهام المناطة بها بشكل فعّال.
04 التقليل من الأعباء المادية الناتجة عن علاج الأمراض والإصابات بعد وقوعها.
05 رفع المعنويات لدى القوات.
وكمثال حي للاستفادة من خبرات الجيوش السابقة، تم أخذ فكرة الوقاية من الأمراض في الاعتبار في الحرب العالمية الأولى في فرنسا، حيث كانت التربة تحمل العديد من البكتريا المسببة ل (التيتانوس)، التي كانت تمثّل خطرًا كبيرًا على المصابين، وكان معدل إصابة الجنود البريطانيين (52) حالة من بين كل ألف من الجنود، كان يموت من بينها90% من الحالات، وأدرك جيش الولايات المتحدة أهمية التحصين ب (الانتيتوكسين) ANTITOXIN قبل دخولهم إلى العمليات، وبالتالي قلت معدلات إصابة الجيش الأمريكي ب (التيتانوس).
أهمية الاستخبارات الطبيةبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى اتضحت أهمية جمع المعلومات الطبية عن أرض المعركة، وهي ما يسمى داخل الجيش الأمريكي ب MEDICAL INTELLIGENCE (الاستخبارات الطبية)، حيث كانت أكبر الإخفاقات في التاريخ العسكري نتيجة انهيار الوقاية الشخصية، وعدم السيطرة على الأمراض، وهو ما يعرف ب DNBI (المرض والإصابة من غير قتال) (DISEASE AND NON-BATTLE INJURTY)، حتى من خلال الفترة التي كان بها (الإسكندر) و (هانيبال) و (فريدريك) و (نابليون)، وهم من أعظم القادة العسكريين، فإنهم قد فشلوا في تحديد أهمية الخطر الطبي على الجنود.
وفي إحصائية لوفيات العالم لعام 1988م، والبالغ عددهم (54) مليونًا، قامت بها منظمة الاستخبارات القومية الأمريكية عام 2000م، وجد أن حوالي ثلث المتوفين كان بسبب رئيس من الأمراض المعدية. ويعود سبب انتشار هذه الأوبئة إلى الهواء، والتنقل، والاستيراد، والتصدير، وتغيّر أنماط الحياة، والبيئة. وتتزايد هذه النسبة، بخاصة في عصرنا، هذا عصر العولمة(1)، والذي تنتقل فيه الأمراض بسرعة مذهلة؛ حيث إن المرض هو العدو الوحيد الذي لا يستطيع القائد قهره، فتُرفع له الرايات البيضاء.
ومن المتعارف عليه أنَّ الحروب بشكل عام تعتمد على المعلومات المتوفرة قبل استخدام السلاح، فالقائد، مهما كانت قدراته ومهاراته القيادية، لا يستطيع تحقيق المهمة بنجاح قبل أن يحصل على المعلومات الضرورية التي تساعده على استخدام قواته. وحتى يتحقق النصر على العدو، لابد من معرفة أدق التفاصيل عن العدو، وعن منطقة العمليات، حيث إن مسؤولية جمع المعلومات الطبية، وتحليلها، وتقويمها، وتفسيرها، ومن ثم إنتاجها، وتوزيعها كاستخبارات طبية، تعتبر من أهم الأسس اللازمة لوضع الخطط التكتيكية وتنفيذها. لذا، فعلينا أن ندرك أنّ الاستخبارات الطبية شرطٌ أساسي لكسب المعركة، مثلما كان الحال أيام (هيوقراط)(2) في معرفة الأخطار الطبية، فمن الأهمية اليوم أن يعطي القادة التكتيكيون والمخططون العسكريون هذا الأمر الاهتمام الكافي، والدراسات الضرورية، لتزويدهم بالمعلومات الكافية عن أرض المعركة من النواحي التالية: الأمراض المعدية المنتشرة، أو الشائعة والمستوطنة، والتهديد الطبي، والبيئة، والمناخ، والتضاريس، والحشرات، والقوارض، والحيوانات المفترسة بالمنطقة، والنباتات الصالحة للأكل، والنباتات السامة بالمنطقة للرجوع لها عند الحاجة. فيجب علينا دراسة ظروف عدونا، وإمكاناته الطبية، والجغرافية، والتي من شأنها أن تؤثّر على مدى الكفاءة القتالية للجنود والآليات، ومدى قدرتهم على الصمود بدنيًا في المعارك.
لا يمكن أن يكون تقويم الطاقة البشرية العاملة صحيحًا على أساس عدد الأيدي العاملة وحده، بل يجب تقويم قدرة هذه الأيدي من حيث: سلامتها البدنية، وقدرتها على العمل، وبذل الجهد، وتحمّل المشقة، وكمال لياقتها؛ حيث إنَّ نسبة عدد ساعات العمل التي تضيع بسبب المرض، والتغيّب، وبسبب الإنهاك الجسماني، الذي تسببه بعض الأمراض المزمنة والعارضة، التي قد تصيب الفرد فتنهك قواه وتقلل من قدرته البدنية والإنتاجية على حدٍ سواء. فمن الثابت أن انتشار أي مرض من الأمراض المنهكة كفيل بأن يعرقل تقدمه وأداءه في الميدان، فالحصول على المعلومات الدقيقة والمبكّرة في الحروب الحديثة، أهم مرحلة في تسلسل التخطيط لأي عملية، وهذا ما تهدف إليه معظم أجهزة الاستخبارات، سواء كانت استراتيجية، أو اقتصادية، أو عسكرية، أو طبية، ومن هذا المنطلق برزت أهمية جمع المعلومات الطبية، والبيئية، والجغرافية على مر الأزمان التاريخية. وتوجّب علينا معرفة طرق هذا المجال والخوض في هذا العلم الهام والحديث في دراسة (الاستخبارات الطبية) بكل فروعها ومكوناتها. حيث إن المرض كما ذكرت كان، ولايزال، هوالعدو الوحيد الذي لا يستطيع القائد قهره، فتُرفع له الرايات البيضاء