إضاعة الأمانة والتوجيهي
بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَاءهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ، قَالَ: أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ قَالَ هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ. قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ. (البخاري، كتاب العلم، 57، وكتاب الرقاق، 6015) (مسند أحمد)
هذا الأعرابي يقاطع الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتحدث إلى أصحابه، ويبين لهم تعاليم الدين ليسأل سؤالا معلوم الإجابة بالنسبة إلى عموم الناس.. فالساعة علمها عند الله، لا يجليها لوقتها إلا هو.. والرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم هذا الموعد..
كان يمكن للرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجيب هذه الإجابة ويُنهي الموضوع، لكنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمرر لحظة من دون أن يعلم أصحابه علما مفيدا، وهو يحول السؤال غير المبرر ليوصل من خلال الإجابة عليه علما هاما.. فها هو صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يركز على كبيرة من الكبائر ستحدث يوما من الأيام، وهي إضاعة الأمانة.. وإضاعة الأمانة لها صور عديدة، منها أنه إذا وُسّد الأمر إلى غير أهله، أي إذا أشرف على المسؤوليات العامة من لا يتقن العمل فيها، وأُبعد الصالحون لهذه الأعمال عنها.
وهناك صور عديدة لإضاعة الأمانة تحصل يوميا من دون أن يشعر الناس بأنهم يرتكبون هذه الكبيرة.. بل الأعجب من ذلك أن من سعى للحفاظ على الأمانة اتهم اتهامات متنوعة.
فخلال امتحنات البكلوريا حيث تعيّن الوزارة للمراقبة على الطلاب فيها عددا من المدرسين.. ومن الواجبات الملقاة عليهم هو منع الطلاب من الغش في هذه الامتحانات وفق تعليمات صارمة. ولكن بعض المعلمين يخون هذه الأمانة ولا يلقي بالا لما يحصل من غش، بل يعمل بعضهم على إشاعة هذا الغش ومساعدة بعض الطلبة في الامتحان.
قد يقول البعض: إن من الطبيعي أن يوجد بعض المعلمين غير الأمناء.. والعبرة بالأغلبية وليس بالأقلية.. نقول: إن المشكلة ليست مقصورة على بعض هؤلاء المعلمين، بل إن الناس يشجعون فعلهم ويظنونه حسنًا ويهاجمون المراقب المخلص في فعله وأمانته ولا يحترمونه… وهذا هو السائد في مجتمعنا.. لذا فإن الواجب على الناس أن ينكروا ما يقوم به هؤلاء المراقبون من غش، وأن يعملوا على منع نشره.
ولو ذهبت تتبع ما يقوم به الناس من خيانة للأمانة لطال بك المقام؛ فما من موظف إلا يخون في وظيفته، ولا يخلص لها كما يخلص لعمله الخاص.. من هنا تكثر المشاكل بين الموظفين والمدراء عادة، لأن كثيرًا من الموظفين لا يخلصون في عملهم كما يجب..
فإذا ساوى الموظف بين مصلحته في عمله الخاص وبين المصلحة العامة في العمل العام كان حافظا للأمانة.. وكان عمله مصداقا للآية الكريمة (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها).. أما إذا فرَّق فقد خان الأمانة بمقدار تفريقه.. فقد تكبر هذه الخيانة وقد تصغر.
قد يقول البعض إن امتحان البكلوريا معقد جدًّا، وإن مادة اللغة الإنجليزية لا داعي لها، وأنا سأتخصص بما لا علاقة لها به، فما حرمة الغش فيها؟
نقول: إن الطالب قد يخترع عشرات المبررات لعمله، لكننا نتحدث عن المعلم المؤتمن على عمله، أما الطالب فإن عمله حرام ليس من باب خيانة الأمانة، ذلك أنه لم يتعهد بمنع نفسه من الغش، ولم يؤتمن على ذلك.. لكن حرمة عمله هي في أنه يحوز علامة تجعله متقدما على غيره ممن هو أكفأ منه وأقدر، وهذا مما لا زلنا نعاني منه في مجتمعاتنا، وهو يؤدي إلى أن يوسد الأمر إلى غير أهله.
ثم إذا شعر الناس بألا داعي للغة الإنجليزية أو غيرها، فليطالبوا الوزارة بتعديل معيّن، أو بإنشاء توجيهي من دون اللغة الإنجليزية.. أو ما شابه ذلك.. أما أن يرى كل شخص أن هناك خطأً في فلسفة التوجيهي ثم يعمل على تغيير هذا الخطأ بالغش أو بأي عمل محرم فهذا يؤدي إلى فوضى وإلى آثار جانبية سيئة أخرى.
على أن الغش في التوجيهي في بعض القرى يعني أن هناك رشوة في الموضوع، فقد بلغني منذ سنوات أن أهل قرية مجاورة يتقربون إلى المراقبين كي يخففوا المراقبة عن أبنائهم، وذلك من خلال دعوتهم إلى تناول الغداء أو ما شابه ذلك.. فهذا حرام.. ويحرم على المراقبين أن يتناولوا هذا الطعام، لأنه من باب الهدية التي تعطى للوالي أو للمسؤول من أجل شراء ذمته.
ثم إن هناك أضرارا عديدة تعود إلى الغش، فهذا الذي نجح من غير جدارة سيصبح مدرسا وينشئ جيلا جاهلا.. ثم إن شهادة التوجيهي لن تعود حائزة تلك الأهمية، وقد ترفض الجامعات الاعتراف بها، وتضطر إلى إجراء امتحان آخر، وهذا يزيد من الأعباء الملقاة على الجامعات ويزيد من الإنفاق على أمور لا مبرر لها، والجامعات تعاني من ضائقات مالية من دون ذلك.
إنه لا يمكن للعمل الحرام أن يصبح مفيدًا، فالحرام حرام.. ولا بدّ من تجنبه.. وأضراره قد نعرف بعضها، وقد نجهل كثيرًا منها.
من هنا فإن علينا أن نحافظ على الأمانة أيا كان موقعنا، وأن نستنكر على من ضيّع الأمانة، وألا نضحك له ونُسر لعمله، لأن في هذا مشاركة له فيه، ويحاسب المرء على ذلك وكأنه قام بالعمل المحرم بنفسه.. فالرضا بالمنكر منكر.