يعود الاستثناء الجزائري في خوض غمار الربيع العربي لمعطى شديد الأهمية؛ فالحزب الحاكم في الجزائر شارك الآخرين في السلطة، والقيادات التاريخية الهرمة لجبهة التحرير الوطنية التي خاضت حرب التحرير الوطني 1954- 1962، بدأت بالانسحاب، مسلّمةً مواقع القرار للشباب على عكس ما حصل في دول المنطقة.
وقد جددت الجبهة نفسها من الداخل، فبدت غير الحزب الذي خاض الانتخابات في سنوات التسعين، والذي كان مكروهاً من الشعب حين كان يمارس الحكم بمفرده.
أضف أن المؤسسة العسكرية الجزائرية التي أثبتت أنها العمود الفقري للدولة، جددت نفسها أيضاً. ويقود الجيش الجزائري اليوم، وهو الجناح العسكري لجبهة التحرير الوطنية، الجيل الثالث من الضباط، في ظل عقود تسليح وتدريب وأنظمة حديثة كانت محظورة سابقاً مع العالم الغربي.
ويعتبر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الجزائر لاعباً رئيساً في المنطقة، وربّما حتّى زعيمة إقليمية، بالنظر الى عدد السكان البالغ 37 مليون نسمة، وحجمها الجغرافي (مساحتها أكثر من ثلاثة أضعاف مساحة ولاية تكساس، وأربعة أضعاف مساحة فرنسا)، وثروتها من النفط والغاز (رابع أكبر منتج للنفط الخام في أفريقيا، وسادس أكبر منتج للغاز في جميع أنحاء العالم).
وبالرغم من كونها بلداً غنياً، تعاني الجزائر من اختلالات اقتصادية واجتماعية وإقليمية عميقة.
ففيما يأمل صندوق النقد الدولي باقتراض جزء من احتياطيّات النقد الأجنبي في الجزائر البالغة 200 مليار دولار، يعاني معظم الجزائريين من تدنّي نوعيّة الخدمات الاجتماعية الأساسية، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية؛ فالبطالة مرتفعة، خصوصاً في أوساط الشباب (أكثر من 20%)، وفقاً للأرقام الرسمية.
وقد فشلت الحكومات المتعاقبة في تحقيق أي تقدّم ملموس نحو اقتصاد متنوّع. ولا يزال قطاع الطاقة يشكّل أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي، وثلثي إيرادات الحكومة، ومايقرب من 98% من الصادرات.
لم تتمكّن الجزائر أبداً من جذب تدفّقات كبيرة من الاستثمار الأجنبي بسبب الروتين الإداري وانتشار الفساد على نطاق واسع، وأنظمة العمل غير المستقرّة.
وقد صنّف البنك الدولي الجزائر في المرتبة 148 (من أصل 183 بلداً) في مجال سهولة ممارسة الأعمال التجارية، خلف كل الدول الأخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما عدا موريتانيا.
والجزائر هي خامس أكبر مزوّد للاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة. كما أنه الشريك التجاري الأكبر للجزائر، منذ أن تمّ توقيع اتفاق الشراكة الثنائيّة في أيلول/ سبتمبر 2005. . ويستوعب الاتحاد الأوروبي 50% من الصادرات الجزائرية، وهو يدعو إلى إقامة منطقة تجارة حرّة بين الجانبين في العام 2017.
أما الولايات المتحدة فتستحوذ على حوالي 25% من صادرات الجزائر، معظمها في قطاع النفط والغاز. والجزائر من بين أكبر ثلاثة شركاء تجاريين للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وفي الآونة الأخيرة، وقّعت الدولتان اتفاقاً إطارياً للتجارة والاستثمار، يضع المبادئ المشتركة التي تقوم عليها العلاقات الاقتصادية، ويشكّل منبراً للتفاوض على اتفاقات ثنائيّة أخرى. وبدأ عدد من الشركات الأميركية في استكشاف الفرص الاقتصادية المحتملة في الجزائر خارج قطاع النفط والغاز.
ولم ُتحدث نتائج الانتخابات التشريعية الجزائرية في الشهر الفائت (أيار/ مايو)، أي تغيير في الخريطة السياسية في ظل تربع الحزبين العلمانيين على المواقع الأولى في نتائج الانتخابات، وهما جبهة التحرير الوطني مع فوزها بـ221 مقعداً من أصل 462، والتجمّع الوطني الديمقراطي، بحصوله على 70 صوتا.
وفيما نظرت الولايات المتحدة وأوروبا إلى تلك النتيجة على أنها خبر سار، وتنفّستا الصعداء إزاء الوضع "المستقرّ" في خضم الانتفاضات في مصر وليبيا وتونس، يتضح أكثر من أي وقت أن الوضع الحالي للنظام الجزائري يخدم هاتين القوتين الأقوى في عالم اليوم.
ويبدو أن شركاء الجزائر لايزالون يفضّلون اتّباع قواعد اللعبة المألوفة، فهذا السيناريو يتيح لهم الحفاظ على شروط انخراطهم مع النظام والجيش: الإفساح في المجال أمامهم للولوج إلى الموارد الطبيعية الغنيّة، والتعاون في سياسات مكافحة الإرهاب، والإجراءات المشتركة ضد الهجرة غير الشرعية.
ومع أن روسيا كانت تقليدياً المورّد العسكري الرئيس للجزائر، والصين إلى حدّ ما، فقد عزّزت الولايات المتحدة والجزائر علاقاتهما العسكرية في الآونة الأخيرة، وباتت شريكا رئيسا للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مجال مكافحة الإرهاب.
فقد أطلقت الجزائر مبادرة لمكافحة الإرهاب الإقليمي مع مالي والنيجر وموريتانيا، في محاولة لدعم التعاون الأمني ومعالجة الأسباب الجذريّة لعدم الاستقرار في منطقة الساحل.
وجاء حفل الإطلاق الذي رأسته وزيرة الخارجية الأميركية مع وزير الخارجية التركي، بحكم رئاستهما للمنتدى في العامين المقبلين، في حضور وزير داخلية الجزائر.
ويضم المنتدى البلدان التي تتوفر فيها القدرات والخبرات التي تسمح بالقضاء على آفة الارهاب في منطقة الساحل الافريقي، الذي يشهد وضعا أمنيا مضطربا بسبب انتشار عناصر تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" في صحرائه الشاسعة، وتداعيات الأزمة الليبية على المنطقة بسبب انتشار الأسلحة.
وتأتي مشاركة القوات الجزائرية في التمرين الخامس للأمن الجوي المسمى "سيركات-11" (CIRCAETE-11) -والذي نظمته إسبانيا، وأدارته في إطار تنفيذ مخطط عمل للعام 2011، للدول الأعضاء في مجموعة 5+5- بهدف "متابعة التعاون في مجالات الأمن والسلم الجويين، مع تطبيق للكتيب التطبيقي للإجراءات المشتركة للدول الأعضاء في مجموعة 5+5 لتبادل المعطيات والمعلومات حول التهديد الجوي الإرهابي.
وتضم المجموعة كلا من الجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا والمغرب، وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال ومالطا.
كل هذه العوامل توضّح اهتمام الغرب ونظرته الى دور الجزائر الاستراتيجي في تحقيق الاستقرار في المغرب العربي، ومحاربة تنظيم القاعدة، ومساعدة الدول الهشّة في منطقة الساحل.
وبما أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لايستطيعان تحمّل حدوث اضطرابات في ذلك البلد، فقد سارعا إلى دعم الانتخابات البرلمانية باعتبارها خطوة مهمة باتّجاه الإصلاح، مع أن ثمة بعض الشكوك في حدوث غش وتزوير في الانتخابات.
إن النأي عن "رياح" الربيع العربي لن يعمر طويلاً إذا تعاملت السلطة مع نتائج الانتخابات بالتراجع عن الوعود التي قدمتها في اعتماد إصلاحات جذرية عقب الانتخابات. هذا التخوف لا يقوم فقط على تجاهل السلطة لتلبية وعود مطالب الإصلاح السياسي.
ثمّة عاملين اثنين على الأقل وفّرا الحماية للنظام من الانتفاضات الشعبية:
الأول هو أن شبح الحرب الأهلية التي شهدتها الجزائر في التسعينيات من القرن الماضي، والتي أدّت إلى مقتل ما بين 100000 و150000 شخص، لايزال حيّاً جداً في أذهان الناس. ويبدو أن هذا الشعور قد تعزّز بسبب العمليّة الانتقالية الفوضوية السائدة في بلدان الربيع العربي المجاورة لها - تونس ومصر وليبيا - وأيضاً بسبب الوضع في سوريا.
ويكمن العامل الثاني في تخصّيص الحكومة المزيد من أموال العائدات الفطية وموارد الغاز لدعم المواد الغذائية، ومنح زيادات في الأجور لموظفي الخدمة المدنية. كما قدّمت قروضاً بدون فوائد لرجال الأعمال الشباب لتأسيس أعمالهم، ومنحتهم إعفاءات ضريبيّة، وخصّصت لهم حصة من العقود المحلّية العامة. ما أعطى النظام مجالاً كافياً لتهدئة استياء الرأي العام.
ولكن السبب الأهم من الاثنين هو الدعم الغربي لدور المؤسسة العسكرية في درء المخاطر الأمنية الإرهابية الحدودية، المتمثلة بدور الشرطة في ضبط الهجرة غير الشرعية إلى ضفاف الساحل الشمالي، ومنع انتشار الأسلحة في المنطقة بسبب فوضى السلاح في ليبيا مع انهيار النظام الأمني فيها، ومنع تسلل المحسوبين على تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" من وإلى ليبيا.
كما تساهم المشتريات العسكرية الجزائرية والعقود "الدسمة" مع الدول الأوروبية المصنعة للأسلحة، لا سيما في الأعوام الأخيرة، إلى حد بعيد، في الستاتيكو الأمني السياسي.
فقد استوردت الجزائر أسلحة من إيطاليا، مثلاً، بقيمة 477 مليون يورو في 2011، وهو ما جعلها أهم مستورد للأسلحة والأنظمة العسكرية من هذا البلد الأوروبي.
تتعلق هذه الواردات بسفن ومروحيات وقنابل مسيلة للدموع لمواجهة المتظاهرين، وقد مثلت واردات الجزائر ما نسبته 9.08% من صادرات الأسلحة والأنظمة العسكرية من إيطاليا، حيث تخطّت الجزائر دولاً تقليدية في استيراد الأسلحة من هذا البلد على غرار السعودية.
وتحدث التقرير عن طلبية أخرى للقوات البحرية الجزائرية لسفينة حربية مطلقة للطوربيدات، تستطيع حمل معدات عسكرية وجنود بوزن يصل إلى 11 طناً، من إنتاج شركة "فينكانتييري" للصناعات الحربية، و"سيليكس" للأنظمة المتكاملة، بتكلفة إجمالية بلغت 416 مليون يورو.
وما يدل على ضخامة فاتورة التسلح في هذا البلد، هو ما ورد في إحصائية معهد البحث الاستراتيجي الدولي المقرب من حلف (الناتو) ومقره بروكسيل، في تقريره لعام 2009، فقد صُنّف الجيش الجزائري في المركز الثاني إفريقياً بعد مصر، من حيث التسليح والتجهيز، وفي المركز الـ20 عالمياً وفي المركز الثامن بين جيوش الدول الإسلامة.
وكانت الجزائر رفعت موازنة الدفاع والأمن إلى قرابة 15 مليار دولار أميركي خلال عام 2011، بحصول وزارة الدفاع على أكثر من 631 مليار دينار (حوالى 9 مليارات دولار)، ووزارة الداخلية على أكثر من425 مليار دينار (نحو 6 مليارات دولار).
واقترحت الحكومة الجزائرية، في مشروع الموازنة العامة الجديدة لعام 2012، أمام البرلمان، رفع موازنة وزارة الدفاع إلى أكثر من 723 مليار دينار (حوالي 10 مليارات دولار أميركي)، لتحتل صدارة قائمة توزيع الموازنة على جميع الوزارات الأخرى، تليها وزارة الداخلية بأكثر من 622 مليار دينار (حوالى 8.6 مليار دولار).
تجدر الإشارة إلى أن المخاطر المتأتية من الحدود الجنوبية والغربية والشرقية ليست بقليلة، وتشكل تحديات أثبتت حكومة الجزائر وعيها لها، وحشدت الجهود والقوى اللازمة لمكافحتها، وتلخص بـ:
1 - توتر الوضع الأمني على الحدود مع مالي، ورفض الجزائر إعلان استقلال إقليم أزواد، وتفاقم مشكلة سكان شمال مالي، وهم الطوارق، مع طلب السلطة المركزية في مالي من الجزائر إرسال تعزيزات عسكرية إضافية إلى الحدود لإغلاق 30 ممرا سريا في الصحراء، من خلال وحدات عسكرية ترابط بصفة دائمة عبر محاوره، لحرمان المهربين والإرهابيين من حرية الحركة.
وتعتزم الحكومة إقامة 50 ثكنة عسكرية ثابتة في 5 ولايات تقع جنوب البلاد والجنوب الشرقي للجزائر، وهي إليزي وأدرار وتمنراست وبشار وتندوف، على طول 4 آلاف كلم من حدودها مع ليبيا وموريتانيا والنيجر ومالي لمواجهة التداعيات الأمنية.
كما أنجزت، في الفترة الممتدة من 2008 الى 2011، نقل أكثـر من 40 ألف جندي ودركي إلى الحدود مع تلك الدول.
وتقوم بتجهيز الحدود الجنوبية بأكثـر من 200 نقطة مراقبة محصنة جديدة، تسمح لحرس الحدود ووحدات الجيش بالعمل في ظروف أكثـر أمنا، مع تخصيص تجهيزات إضافية منها معدات اتصال وتجهيزات إلكترونية للوحدات العاملة في الحدود الجنوبية.
2 - المخاطر الأمنية الناتجة عن الأزمة الليبية، وانتشار الأسلحة في المنطقة بسبب فوضى السلاح في ليبيا مع انهيار النظام الأمني فيها، ما حدا بالحكومة إلى حشد نحو 7 آلاف جندي لتشديد المراقبة ومنع تسلل المحسوبين على تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" من وإلى ليبيا.
فقد تورط أتباع تنظيم القاعدة وأشخاص يتعاونون معه في تهريب أكثر من 70% من الأسلحة المضبوطة في الجنوب، وكانت وجهة تلك الأسلحة معاقل التنظيم في شمال الجزائر.
وقدرت مصادر أن كمية الأسلحة المصادرة قرب الحدود الجنوبية والشرقية مع ليبيا فاقت مجموع ما تم مصادرته من الأسلحة في كامل الجنوب، خلال 20 عاما، بحيث بلغت الأسلحة المصادرة في ولايتي تمنراست وإليزي 520 قطعة سلاح، في الفترة بين كانون الثاني/ يناير وأغسطس/آب 2011، وهي أسلحة مختلفة، زيادة على الآلاف من وحدات الذخيرة المختلفة.
وقالت تقارير أمنية إن كمية الصواريخ التي اختفت في ليبيا أغلبها صواريخ "غراد" و"كاتيوشا"، ومئات الصواريخ المضادة للدبابات والألغام البحرية والأرضية.
وأشارت إلى وجود تحقيق دولي يجري حاليا لكشف اختفاء 80 صاروخ "ستريلا 2"، أو "سام 7" المضاد للطائرات، وألغام بحرية روسية، ويعتقد بأن كمية من تلك الصواريخ والألغام وصلت بالفعل إلى "الإرهابيين" في منطقة الساحل الأفريقي.
يذكر أن الولايات المتحدة الأميركية حذرت قبل أيام من وجود مخطط لاستهداف طائرات شركات النفط العاملة في دول المنطقة والجزائر، بتلك الصواريخ.
وكان قائد أركان الجيش الجزائري، الفريق قياد صالح، أصدر توجيهاته لمختلف أجهزة الأمن في تموز/ يوليو الماضي، حذر فيها من وقوع عمليات "إرهابية" خلال شهر رمضان الماضي، وهو ما حدث بالفعل من خلال العملية الانتحارية التي استهدفت أكبر مدرسة عسكرية الواقعة في مدينة شرشال، 100 كلم شمال غرب العاصمة الجزائرية، والتي أودت بحياة 16 ضابطا ومدنيين اثنين.
وبهذا الدور، فقد خلقت الحكومة الجزائرية شراكة مصالح مع الغرب الأوروبي والأميركي، فأمنت بهذا الجانب الدعم الغربي لدور المؤسسة العسكرية في ضبط فوضى السلاح على الحدود، ورفع شعار محاربة "القاعدة"، واعتقدت أنها نأت بنفسها عن تأثيرات الربيع العربي.
لكن، إلى متى تستطيع سلطة الجزائر الهروب من الإصلاح والاختباء عما يجري من حولها؟