الانتساب للثقافة لا يتم بالادّعاد، وليس حكرا على احد دون غيره، ليس من يكتب ويؤلف هو المثقف حصرا، الانسان العادي مثقف بسلوكه وفكره، وقد يتفوق بهما على المؤلف والمنتج للنص الابداعي وسواه، لذا يتبادل السؤال التالي للاذهان، من هو المثقف الحقيقي، وما هي الثقافة الحقيقية؟ سنعثر على الجواب من ثقافتنا التي تقف قاصرة عن الفعل والتأثير في المجتمع، وتغييره نحو الافضل، وهذا يدل على وجود أزمة ثقافة، سببها بعض المثقفين، وهم أولئك الذين لم يترددوا في أية فرصة تتاح لهم، عن اعلانهم الانتساب للثقافة.
ولكن حين تبحث في الجهد الفكري او حتى السلوكي الذي قدموه للثقافة، فإنك لن تجد ما يشير الى فعل ثقافي جوهري سوى الادعاء بالانتماء، والسبب لمن يبحث عنه ليس صعبا ولا مستعصيا، فثمة من المثقفين، او ممن يدعون الثقافة، لايزالون يعيشون في عصر الامية الألكترونية، وقد أهمل هؤلاء عن قصد او من دونه، ملاحقة مستجدات العصر، في جانب استخدام وسائل الاتصال الحديثة، التي استطاعت ان تختصر مساحة المعمورة وتجمع العالم في غرفة واحدة، يمكن للجميع فيها ان يطل على الجميع (افعالا وافكارا وانماط حياةٍ وثقافة وفن وفكر) وما الى ذلك من الانشطة الانسانية التي تضج بها كرتنا الارضية، هذا يعني اهمال العصر، ووسائله، وعدم القدرة على التعامل معها حضاريا، ما يدل على تدني كبير، في قدرات المثقف، على التعامل مع وقائع العصر، وسرعته المدهشة في عموم الانشطة والجوانب، الفكرية والعملية.
فهل يؤثر مثل هذا الخلل على صنع الثقافة القادرة على دفع الجماعة الى امام، بما يتسق مع مظاهر العالم المعاصر، الذي ينحو الى السرعة، وازدهار الفكر، وتناميه وتطوره في عموم مجالات الحياة؟، وهل هناك أزمة ثقافة، نعيشها اليوم بسبب تقاعس المثقفين او بسبب أولئك الذين يدّعون الانتماء للثقافة ولا يقدمون الاستحقاق المقابل او المطلوب لهذا الانتماء؟، إن ثقافة الشعوب المتمدنة تُقاس بمستوى نمو مثقفيها كمّاً ونوعاً، ولا ينحصر الامر بالكمّ مطلقا، وهو ما يحدث في الشعوب التي لا تزال بعيدة عن التمدن والتحضّر المقبول، حيث الكم الثقافي للثقافة والمثقفين، يطغي على النوع والجوهر معا، ولو اردنا الانصاف في هذا الصدد، فلابد أن نعترف بأننا لا زلنا ننتمي الى الشعوب ذوات الثقافات القاصرة، وذلك لسبب بسيط، هو عدم قدرة ثقافتنا ومثقفينا على التأثير أفقيا في المجتمع، وتحويل الفكر والسلوك الشعبي، ونقله الى خانة التحضّر والتمدّن.
ولو أردنا التقصّي والانصاف في هذا المجال، فإننا يمكن أن نضع نسبة قليلة لما تقوم به الثقافة في مجال تمدين المجتمع ونقله الى واقع العالم المعاصر، ليس من حيث المظهر الخارجي، الملبس وتصفيف الشعر والمكياج وما شابه، وإنما دور الثقافة في تطوير الفكر والسلوك ونقلهما الى خانة التحضّر، لذا يمكن للمتابع أن يعثر على نقاط الخلل التالية في ثقافتنا ومثقفينا:
- سطحية الثقافة وانشغال المثقف بالثانويات.
- خفوت الابداع وتراجعه وهو ما يفسر حالة العسر في ظهور مبدعين جدد.
- سيطرة ظاهرة الادعاء الثقافي، ونمو الشكل على حساب الجوهر، وعلو صوت المدّعي حتى صار يفوق بنبرته صوت المثقف الأصيل.
- غياب المؤسسات الثقافية المهنية، مقابل انتشار مؤسسات او منظمات ثقافية هابطة، تنحو الى القشرية الثقافية لكسب بعض الامتيازات المادية وغيرها.
- ملاحظة تردي النطق بالعربية وانتشار ظاهرة الخطأ في النحو والاملاء والتعبير، مقابل نمو العامية، وتكريس اللهجة الشعبية، كما نلاحظ ذلك في الفوضى التي يعيشها الشعر الشعبي، في القنوات الفضائية والاذاعات وغيرها.
- عدم ظهور مشروع ثقافي وطني قادر على استعياب المتغيرات وتوظيفها لصالح الثقافة الرصينة القادرة على اداء دورها الصحيح لمساعدة المجتمع في الانتقال الى مرحلة التحضّر الحقيقي.
وفي حالة التنبّه لمثل هذه النقاط – وربما ثمة غيرها- يمكن أن نتجاوز أزمة الثقافة التي نعيشها الآن، أو نخفف من حدتها، ونتجاوز اضرارها تدريجيا، ولكن لابد أن لا يُسمَح لبقاء الحال كما هو عليه، حتى لو كنا لا نعي ذلك او لا نقصده.