مقال جيد اعجبني :
اليوم وبعد قرابة العام والنصف من إحراق محمد البوعزيزي نفسه في إحدى مدن الجنوب التونسي مطلقاً شرارة ما عرف باسم الربيع العربي، يقف العديد من المراقبين باندهاش وهم يتابعون تطور الأحداث في سوريا من مظاهرات سلمية إلى حرب تدور رحاها بين الجيش العربي السوري والجيش السوري الحر منتجة دماراً واسعاً في بلد اشتهر بالاستقرار، وكما كانت أحداث الربيع العربي مفاجأة حتى للمتظاهرين أنفسهم فإن صمود النظام في سوريا أحدث مفاجأة أخرى، ولكن لفهم الربيع العربي وكيف تطورت الأحداث ولصالح من؟. فإننا مضطرون للعودة إلى الوراء نحو نقطة البداية.
حرب 1973 السعيدة
نعرف الكثير عن تطور أحداث القتال في حرب الشرق الأوسط هذه، ولكن القليل منا يعلم أنها كانت حرباً لرسم شكل المنطقة، وكما أسماها الرئيس الشهيد السادات "حرب تحريك لا تحرير"، وقد كان الراحل صريحاً جداً عندما قال: إن 99% من أوراق الحل بيد أمريكا؛ ولكي لا يغرق القارئ في متاهات حرب رمضان نتحدث مباشرة عن نتائجها "السعيدة" حيث استردت مصر سيناء، وسوريا القنيطرة، وهزمت إسرائيل وفقدت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وتضامن العرب مع جيوشهم فأوقفوا ضخِّ البترول، ونجحوا في تركيع الغرب الذي هبّ لنجدة إسرائيل عبر الجسر الجوي لتتوقف الحرب بنصف نصر لكل من الطرفين. هذه هي الرواية التي يعلمها الجميع ولكن لننظر إلى النتائج التي لا يتحدث عنها أحد.
1ـ لم تخسر إسرائيل في الحرب أكثر من ألفين وخمسمائة جندي (2500)؛ ولكنها كسبت تحييد العدو القوي على جبهتها الجنوبية وحدوداً آمنة منذ نهاية العمليات في 1973 وحتى اليوم.2ـ ارتفاع سعر النفط ساهم في الإبقاء على الاتحاد السوفيتي بوصفه أحد أكبر مصدري النفط لعشرين عاماً قبل سقوطه المدوي في التسعينيات نتيجة الأزمة الاقتصادية الناتجة عن انخفاض أسعار البترول في أعقاب حرب الخليج العراقية الإيرانية.3ـ وهنا تبدأ الحقائق بالظهور، بالنسبة للولايات المتحدة كانت الحرب طوق نجاة من الإفلاس؛ حيث قامت أمريكا بفكِّ الارتباط من جانب واحد بسعر التحويل الذهبي للدولار البالغ 35 دولاراً للأونصة قبل الحرب بعامين؛ مما دفع العالم للتخلص من دولاراته وجعل أمريكا بلداً منكشفاً من الناحية الاقتصادية، وقد كان ارتفاع سعر البترول نعمة هائلة للولايات المتحدة التي تأكدت من تسعير البترول بالدولار كشرط مسبق، وبالتالي رغب الجميع في الحصول على الدولار مجدداً مما وفر عطاءً مثالياً للعملة المتهاوية، وبسبب أن الدول الخليجية لم تسحب أموالها أبداً من البنوك الأمريكية وإنما استثمرتها في شراء سندات الخزانة طويلة الأجل، وقامت فقط بسحب فوائد الودائع مما سمح بتراكم المال في الولايات المتحدة، وقد قدّرت قيمة الودائع السعودية في العام 2001 بنحو سبعة في المائة من مجمل الأموال في الولايات المتحدة وهناك كاسبون آخرون.
4ـ شركات النفط الأمريكية والبريطانية، فللمرة الأولى يكون إنتاج النفط في ألاسكا وبحر الشمال مجدياً اقتصادياً؛ الأمر الذي أخرج بريطانيا من ركود السبعينيات، وسمح لها بالعودة لتصبح قوة مالية مجدداً.
5ـ أما باقي أوروبا فقط استردت ممتلكاتها التي فقدتها إثر تصفية الاستعمار دون إرسال جندي واحد إلى ما يعرف باسم العالم الثالث وكان ذلك كالآتي: إثر ارتفاع سعر النفط مع بقاء أسعار المنتجات من دول العالم الثالث كما هي واجهت هذه الدول أزمات اقتصادية جعلتها تسقط في فخِّ الديون، وتدريجياً انخفضت أسعار منتجاتها مثل القطن والكاكاو وغيرها من المواد الأولية؛ لأنها أصبحت مرهونة مقابل الديون للمؤسسات الأوروبية الخاصة والدولية التي تساهم أوروبا بقسط وافر فيها، وقد نظر اقتصاديو البنك الدولي لهذا الانخفاض تحت مسمى انهيار شروط التبادل، وباختصار تم إفقار الدول المستقلة حديثاً كنتيجة مباشرة لحرب 1973، وتم تجيير قوة العمل لأكثر من ملياري إنسان في آسيا وإفريقيا لصالح بنوك الشمال الأوروبي ومؤسساته؛ مما أدى لظهور دولة الرفاه الاجتماعي في أوروبا في سنوات السبعينيات، وسقطت دول مثل السودان ومالي في فخِّ ديون غير قابلة للسداد أبداً.
هذا بالنسبة للوضع بعد 1973 ولكن ما الذي حدث لاحقاً؟ أصبح لكل دولة في الشرق الأوسط وظيفة يجب ألا تتعداها وإلا فإن العصا الغربية ستقف بالمرصاد. ولنحدد الأدوار في هذه المسرحية فالشرق الأوسط هو مصدر النفط الرئيس؛ حيث يوجد به أكثر من 70% من الاحتياطي العالمي، وهو بالتالي مصدر القمية النقدية الرئيس، أو يمكننا تسميته بالغطاء النقدي البترولي للاقتصاد العالمي، وبعد وجود هذا الغطاء تحت يد الولايات المتحدة مباشرة أمر حياة أو موت بالنسبة لها،
أما بالنسبة لإسرائيل فإن استمرار حالة الحرب بينها وجيرانها يجعلها في موضع الذئب الذي يبرر وجود الراعي لقطيع الأغنام؛ إذ يجب أن تخوض حرباً مرة كل حوالي عشر سنوات لجعل القطيع يشعر بالامتنان للراعي الأمريكي، وتمثل مصر في هذه المعادلة دور مخزن الجنود المشاة الذين يموتون من أجل الحفاظ على أمن البترول كما حدث في العام 1991 في حرب تحرير الكويت؛ لذا يعد الجيش المصري أكبر متلقٍ للدعم العسكري الأمريكي بعد إسرائيل، ويضمن هذا الجيش أيضاً سلامة وصول البترول عبر قناة السويس ووجوده المباشر في بعض الدول المنتجة، وتتوزع باقي الأدوار على دول المنطقة حسب قربها أو بعدها عن مركز الأحداث، فقد شكّل السودانيون واليمنييون جنود معظم دول الخليج، بينما ترك اليمن الجنوبي وسوريا كمكافأة للاتحاد السوفيتي بعد الحرب، وموطئ قدم للأساطيل السوفيتية.
ما الذي حدث وكيف تخلى الغرب عن حلفائه؟
بالنسبة لشروط اللعبة الأساسية لم يعد النفط مصدر الطاقة الوحيد فقد ظهر الغاز، ونتيجة مؤتمر كيوتو 1997 الذي رفضته الولايات المتحدة تسعى أوروبا لإحلال وارداتها النفطية بأخرى من الغاز الطبيعي؛ ولكي لا يتم تقييم هذه الواردات بأية عملة خلاف الدولار الأمريكي يجب على الولايات المتحدة السيطرة إما على المنتجين أو المستهلكين أو خطوط النقل أو الثلاثة معاً، فإن ظهور عملة مثل اليورو وحصولها على غطاء نقدي من الغاز سيسقط الدولار من عليائه ويحوله إلى عملة عادية مثل الجنيه المصري أو الدينار التونسي؛ لذا فقد بدأت الحرب من أجل الغاز منذ بداية الألفية الثالثة ومرّت بعدة مراحل نذكر منها الثوارت الملونة في جورجيا وأوكرانيا في 2004، وحرب أبخازيا بين روسيا وجورجيا يوم افتتاح الألعاب الأولمبية الصينية 8/8/2008، وما تهمنا معرفته في هذا المقال هو: تسعى روسيا لاحتكار توريد الغاز لأوروبا، فهي تورد اليوم 30% من استهلاك أوروبا في العام 2011 البالغ 444 مليار متر معكب سنوياً، وقد كان ذلك عبر خط أنابيب أوكرانيا وبيلوروسيا. أما الولايات المتحدة فقد سعت لتصدير الغاز من تركمانستان وقطر "نعم قطر" عبر خط نابوكو المار بتركيا أردوغان المسلمة إلى أوروبا، وتعد الثورات والانقلابات التي عمت المنطقة كلها جزءاً من هذا الصراع الهائل، فمثلاً وسعياً لمزيد من السيطرة الروسية أبرمت روسيا اتفاقاً مع نيجيريا لنقل الغاز النيجيري الذي يتم التخلّص منه لعدم وجود مشترٍ بالحرق عبر خط أنابيب إلى ليبيا ومن ثم إلى أوروبا عبر إيطاليا، حيث سمح برلسكوني لروسيا بالحصول على 50% من شركة أيني البترولية الإيطالية في ليبيا، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تعزله عن السلطة كأي ديكتاتور في جمهوريات الموز اللاتينية، وتم إنشاء بوكو حرام في نيجيريا الشمالية حيث يمرّ الخط؛ مما جعل إنشاء الخط مستحيلاً، وهكذا تم التخلص من القذافي وبن علي "تونس أيضاً منتجة للغاز" وبرلسكوني لإغلاق الخط المسمى آفريكان ستريم على روسيا، وبرغم أن روسيا احتلت أبخازيا 2008 لمنع مرور الغاز عبر جورجيا إلا أن خط نابوكو الأمريكي يحاول تعويض الغاز الروسي بخط جديد يمتد من حقل الشمال القطري إلى البسفور، وهنا تبدو سوريا مفصلية جداً فالخط يجب أن يعبر أراضيها وهي حليف استراتيجي لروسيا ومرور الغاز عبرها سيؤذي روسيا التي شكلت درع حماية ضد إسرائيل على امتداد أكثر من أربعين عاماً لسوريا،
هنا تظهر أسباب المساندة القطرية للثورة العربية، والمساندة الروسية للرئيس بشار الأسد. أما لمَ لم تتم مساندة مبارك من قبل الولايات المتحدة؟ فالإجابة أن مبارك فقد أهميته، ففي حرب 2003م لم يستطع إرسال قواته إلى الخليج ولا في 2001م في أفغانستان، وعند العام 2006 قاد جهود الدبلوماسية لإسرائيل؛ ولكن صمود جنوب لبنان حوّل الحرب كلها إلى هزيمة هائلة لأمريكيا بعد النصر الذي حققته بطرد سوريا من لبنان إثر اغتيال رفيق الحريري، أما في 2008 حرب غزة فإنه لم يستطع أو لم يرد منع تدفق المؤن والسلاح عبر الحدود؛ مما جعل وجوده عبئاً على الولايات المتحدة. فمبارك كانت لديه حدود لا يمكن تجازوها بالنسب للمصلحة المصرية ضمن المخطط وسيتم استبداله بما يحق هذه المصالح، وكذا الأمر بالنسبة لعلي عبد الله صالح في اليمن. الجدير بالذكر أن خط الغاز المصري لإسرائيل موجه أساساً للربط في خط نابوكو من جهة الأردن،
ويعد تفجير الخط للمرة السابعه عشرة بعد ثورة يناير دليلاً على عدم رغبة أحدهم في وصول الغاز المصري إلى هذه المنظومة. ختاماً فإن ما يسمى بالربيع العربي هو صراع مصالح مرير حول سوق يبلغ حجمها 500 مليون نسمة متعطشين للطاقة في القاره العجوز، وهو صراع حول الدولار واليورو، وبالنسبة لدول مثل روسيا أوالولايات المتحدة هو صراع حول البقاء أو مواجهة الإفلاس، وستكون نتائج معركة سوريا حاسمة في هذا الصراع فبعد أن فقدت روسيا آفريكان ستريم، وفقدت الولايات المتحدة غاز تركمانستان. تشخص الأبصار لنتيجة المباراة حول الغاز القطري والمعبر السوري.
منقــول