عامة المسلمين أفضل من علمائهم وأقرب إلى الفطرة
استشاط زملائي في خضوري غضبًا حين سمعوا بالفتوى سيئة الصيت التي أطلقها أزهري بشأن إرضاع الزميل في العمل من زميلته. بيد أن أحد المتأثرين بخريجي كليات الشريعة قال لهم: إن المسألة ليست بهذه البساطة، فالموضوع له أصل، وإرضاع الكبير له أصوله.
هذا مثال واضح على فساد فطرة كثير من خريجي كليات الشريعة، ومن تأثر بهم.. وعلى طهارة فطرة عامة المسلمين.
قال تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ).. فالآية قاطعة في أن أقصى حد للرضاعة التي يمكن تسميتها رضاعة سنتان.
ورضاع الكبير هذا مثال صارخ على ما يُسمّى بالحيل الشرعية، فالذي دار في خلد بعض الحاقدين على الدين، أنه ما دام هنالك أخوة وبنوة في الرضاعة، وما دامت هذه الأخوة والبنوة تجيز للطرفين أن يختليا ببعضهما، فلماذا لا يُدخَل من هذا الباب بحيلة، ولتكن رضاع الكبير.
والظاهر أن هذه الحيلة قد انطلت على الناس، ووضعوا لها سندًا شرعيا، حيث نسبوا إلى رسول الله r حديثًا يجيز ذلك.
بيد أن البخاري رفض هذا الحديث من جذوره، ورفض أن ينسبه إلى نبي الله r ، لذا رأيناه يورد الحديث التالي(إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ) تحت بَاب: مَنْ قَالَ لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ).
هذا مجرد مثال، ولكن الأمثلة المشابهة كثيرة.. فحين تقول لشخص من عامة المسلمين: إن عددا من السور الطويلة قد فُقدت من القرآن الكريم بعد أن نـزلت مباشرة، لاستشاط غضبًا. وحُقَّ له ذلك؛ أليس هنالك تعهُّد من الله بحفظه؟ لكن عددا من خريجي الشريعة، يسمون ذلك نسخ التلاوة، وهو عندهم من المسلمّات، ويؤمنون بالحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي موسى الأشعري الذي يقول: وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبـههَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةٍ فَأُنْسِيتـها غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنـها: لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ. وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبـههَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتـها غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنـها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنـها يَوْمَ الْقِيَامَة.
فأيهما أقرب إلى روح الدين؟ ومَن الذي تشوهت فطرتُه؟
خذ مثلا ثالثا، لو قلت للعامة: إن موسى u قد فقأ عين ملك الموت حينما جاءه يقبض روحه، لوبَّخك على الاستهزاء بالدين. وحُقّ له ذلك؛ ولكن عددا من المشايخ يمكن أن يأتيك بفوائد لهذه الرواية: (أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام فَلَمَّا جَاءهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ؟ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ فَالْآنَ. (البخاري، كتاب الجنائز)
خذ مثالا رابعًا؛ لو قلت لمن لم تفسد فطرتهم: إن الرسول r قد تعرض لسحر قام به يهودي ضده، وذلك بكتابة بضع كلمات وعقدها ووضعها تحت حجر في بئر، لثار ضدّك ووبخك على هذه المفتريات الداحضة، لكن خريجي الشريعة لهم موقف مغاير، فلنقرأ الحديث:
أخرج البخاري في صحيحه عن هشام عن أبيه عن عائشة:((سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا فِيهِ شِفَائِي أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ ابْنُ الأعْصَمِ قَالَ فِيمَا ذَا قَالَ فِي مُشُطٍ وَمُشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ قَالَ فَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَقُلْتُ اسْتَخْرَجْتَهُ فَقَالَ لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا ثُمَّ دُفِنَتِ الْبِئْرُ)) (البخاري، كتاب بدء الخلق، 3028)
خذ مثلا خامسًا، وليكن قتال المسالمين، فلا تجد مسلمًا من عامة المسلمين إلا ويرى أن الرسول r قد قاتل المعتدين، وأنه ليس لنا أن نقاتل سويسرا يومًا ما، بينما ينبري ابن حزب التحرير أو بعض جماعات التكفير ليمطرك بوابل من الشبهات محاولا إثبات أن الإسلام يدعو لقتال سويسرا وغيرها لإخضاعهم وأخذ الجزية منهم.
أما التكفير فإن عامة الناس يرفضون تكفير أي مسلم يشهد الشهادتين مهما خالفهم في التفسير، أما المشايخ فإنهم محترفون في الكلام الطويل الممل بهذا الشأن، فتحدثوا عن المعلوم من الدين بالضرورة، ولم يلخصوها يوما ما، فأحدثت من المشاكل ما أحدثت.
ويستغرب العامة من دعوة المشايخ لمقاطعة بعضهم بعضًا، وحق لهم ذلك؛ أليست المقاطعة محرمة؟ وهل أمر لرسول r بمقاطعة المبتدعة؟ كل ما أمر به هو مقاطعة فاعلي الإثم وقت فعله، لكن الفهم الخاطئ ليس إثما، بل يجب العمل الحثيث على تغييره عبر النقاش والجدال، وهذا ما يطالب به العامة، بينما يفر منه المشايخ.
ويرفض عامة الناس أن ينسبوا إلى المسيح u حين نـزوله أنه سيقتل الكفارَ عن بكرة أبيهم، بل يصرون مَعَنا على أنه (لا إكراه في الدين). وهذا هو الفهم المتوافق مع الفطرة.
لم أتحدث إلا عن أمور يُجمعون على صحتها، أمّا ما فيه خلاف بينهم، فلا حصر له من مرويات باطلة لا يمكن لعامة الناس أصحابِ الفطر غير المشوهة أن يصدقوها لحظة.
فإذا كانت كليات الشريعة تخرج الطلاب ليقولوا برضاع الكبير وبنسيان سور قرآنية وبهجوم نبي على ملك الموت، وبسحر النبي r ، وبالجهاد العدواني وبقتل المخالفين وبوجوب مقاطعتهم على الأقل، وبعقيدة كراهية الخصوم، أليس واجبا على أهل الصلاح أن يهبّوا لإصلاح الخلل الرهيب فيها؟