تسببت الأزمة الاقتصادية التي تجتاح أوربا في الوقت الراهن في تنامي محاولات الانتحار بشكل مخيف في القارة العجوز بسبب تردي مستوى معيشة السكان. ودق فاعلون مدنيون ناقوس خطر استمرار تزايد معدلات الانتحار وحذروا الحكومات من عواقب التمادي في تجاهل هذه الظاهرة.الآن،
أصبحت الأزمة الاقتصادية تقتل. باتت هذه الأزمة الأقوى من نوعها منذ سنة 1929، والتي أفقدت الكثيرين مناصب شغلهم وجعلت معنويات فئات عريضة من السكان في الحضيض، تهدد بوضع حد لحياة الآلاف من الأفراد. استمرار الصمت قد يقتل أيضا.
أوربا تنتحرفي يوليوز الماضي، نشرت المجلة الطبية البريطانية «ذي لانسيت» تحقيقا دقت فيه ناقوس الخطر من التزايد الملحوظ في نسب الانتحار بالدول الأوربية، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها القارة العجوز. التحقيق ذاته كشفق أن حالات الانتحار ارتفعت بنسبة لا تقل عن 5 في المائة منذ سنة 2008 في 9 بلدان أوربية من أصل 10 تتوفر فيها معطيات رسمية دقيقة عن الانتحار.
في اليونان وإيرلندا، أكثر دولتين أوربيتين تضررا من الأزمة الاقتصادية التي تجتاح أوربا، ارتفع معدل الانتحار، على التوالي، بنحو 13 و17 في المائة. وفي فرنسا، أكد الطبيب النفساني وبروفيسور الطب الشرعي، ميشال دوبو، وهو أيضا رئيس الجمعية الفرنسية للوقاية من الانتحار، ويعكف على دراسة هذه الظاهرة في بلاده منذ أزيد من أربعين سنة، أن الانتحار عرف تزايدا ملحوظا في فرنسا في السنوات الثلاثة الأخيرة. دوبو قدر هذه الزيادة بنحو 750 حالة في كل 10 آلاف محاولة انتحار، وأرجع السبب الرئيس في هذه الزيادة إلى ارتفاع معدل البطالة منذ بداية الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الراهنة.
ومن هذا المنطلق، لم يكن مفاجئا أن يحتضن مجلس الشيوخ الفرنسي في 11 فبراير الماضي لقاء حول التزايد المؤرق لإقبال الفرنسيين على الانتحار. اللقاء عرف مشاركة قرابة 400 باحث ومتتبع للموضوع.
ويؤكد ميشال دوبو أن ما تعيشه فرنسا شبيه بما وقع بعيد انفجار الأزمة الاقتصادية الكبرى سنة 1929، وقال في ذلك اللقاء سالف الذكر منبها إلى خطورة ما يحدث ومخاطر لامبالاة السلطات المعنية به: «نعلم حاليا الأخطار التي قد نواجهها بسبب هذه الأزمة. لكن المؤسف أنه لا أحد يعيرها الاهتمام الذي تستحق، لا أحد يهتم بالتبعات الصحية والإنسانية لهذه الأزمة على الإنسان». الإحصائيات تكشف وجود نمو متزايد لحالات انتحار الفئات المجتمعية الأكثر هشاشة. الانتحار في أوساط العاطلين أكبر بكثير منه في صفوف السكان النشيطين. معدل الانتحار أيضا مرتفع في صفوف الأجراء البسطاء مقارنة مع العمال والأجراء.
30 منتحرا يوميا
لا تغرب شمس يوم دون أن يعلن عن محاولة انتحار وحيدة على الأقل. حينها توضع الأيادي على القلوب على أمل أن تؤول المحاولة إلى الفشل وتكتب لمحاول الانتحار حياة جديدة.
ربة بيت ضاقت ذرعا بظروف عيشها السيئة، فتبادر في لحظة منفلتة إلى محاولة وضع حد لحياتها، ومهندس أثقلته الديون فيقدم على رمي نفسه من مبنى إدارة الضرائب، وهذا شرطي ينتحر قرب زنزانة سجينه، وموظف بنكي بلغ به اليأس من الحياة درجة فقد فيها معيار التمييز فصعد في لحظة يأس قاتل خلسة إلى مبنى مقر عمله ليلقي بنفسه من أعلى السطح فيهوي صريعا أمام الواجهة الزجاجية للوكالة البنكية التي يشتغل فيها، ومياوم يشنق نفسه في مرحاض الشركة التي يشتغل بها، وكاهن يذهب في جولة استجمامية أخيرة للغابة لا يعود بعدها إلى الكنسية... واللائحة طويلة.
تسجل سنويا 220 ألف محاولة انتحار تخلف أزيد من 11 ألف منتحر، وهو ما يعني معدل 30 منتحرا في اليوم، وأزيد من حالة واحدة كل ساعة. وتعرف فرنسا إحدى أقوى معدلات الانتحار في العالم كله، إذ يصل هذا المعدل إلى نحو 14.9 حالات في كل 100 نسمة، ويزيد هذا المعدل بكثير عن المعدل الأوربي المقدر بـ9.8.
محاولات الانتحار في فرنسا ضعف نظيرتها في إسبانيا وبريطانيا وهولندا. ومع ذلك، تظل الأرقام الفرنسية، على فداحتها، أقل سوءا من المعدلات المسجلة في أوربا الشرقية. معطيات رسمية تقدر نسبة الانتحار في روسيا بنحو 30.1 في كل 100 ألف نسمة، وهي نسبة تبلغ 21 في أوكرانيا مقابل 27 في روسيا البيضاء.
ويعتبر المعدل الفرنسي أيضا أقل بكثير من النسبة المسجلة في عدد من دول آسيا، وفي مقدمتها اليابان التي يصل فيها هذا المعدل إلى 24.4 وكوريا التي يناهز فيها 31، مع ضرورة الإشارة إلى العوامل الثقافية التي تلعب دورا كبيرا في تنامي معدلات الانتحار في البلدين الآسيويين سالفي الذكر.
وفي أوربا الغربية، ترسم المعطيات الرسمية أيضا سورة قاتمة عن الأوضاع الاقتصادية والمالية، وهو ما جعل محاولات الانتحار في فلندا، على سبيل المثال، تقفز إلى 18.4 في كل 100 ألف نسمة، وبلجيكا أيضا ليست أفضل حالا من فرنسا حيث يصل فيها معدل الإقبال على الانتحار إلى 17.6 في كل 100 ألف نسمة.
لامبالاة الحكوماتينتفض الرأي العام عند بث خبر محاولة انتحار داخل المقاولات الاقتصادية الكبرى بفرنسا. ومن البديهي أن تكون ردود الفعل الشعبية أكثر قوة في حال «نجحت» المحاولة. الصحافة بدأت تنفث الغبار عن هذا الوضع والحكومات لم تتجاوز بعد التعبير عن القلق والانشغال إلى الفعل وإطلاق مبادرات لوقف نزيف الانتحار.
وفي فرنسا، يتساءل كثيرون عن جدوى الاهتمام الكبير الذي توليه السلطات العمومية للحد من قتلى حوادث السير وإهمالها البحث عن السبل الكفيلة بالحد من إقدام مواطنيها على وضع حد لحياتهم. مصدر التساؤل يكمن في كون قتلى الطرق الفرنسية لا يتجاوزون 4 آلاف شخص سنويا فقط، في الوقت الذي يقتل فيه «الانتحار» 11 ألف فرنسي في كل سنة، أي قرابة ثلاثة أضعاف ضحايا حوادث السير.
وأمام هذا الوضع، لا يتردد كثيرون من المتتبعين لهذه الظاهرة، الذين أنهكهم دق نواقيس الخطر، في التساؤل عما إذا كان الانتحار سيصبح حادثا عابرا في المجتمع الفرنسي في ظل تزايد محاولات الانتحار وعدم الإقدام على التعبئة الشاملة للتقليص من أرقامه المخيفة.
وفي انتظار رد الفعل الرسمي من قبل الحكومة الفرنسية لمعالجة ظاهرة الانتحار وإعادة المعدل الفرنسي في هذا المجال إلى مستوى «معقول»، بادر ميشال دوبو بمعية جون كلود دولجين، المتخصص في دراسة ورصد الأخطار النفسية والاجتماعية، في السنة الماضية، إلى إطلاق نداء من أجل تأسيس مرصد مستقل للانتحار. غير أنهما يشددان بعد 10 أشهر من إطلاق المرصد، على استحالة مواجهة تنامي هذه الظاهرة، بشكل مثير للقلق، في غياب مبادرات حكومية تقر تدابير وقائية فعالة وتبعث الأمل في الحياة في نفوس العاطلين وجميع الذين انعكست الأزمة الاقتصادية سلبا على مستوى معيشتهم وأوصلت أوضاعهم المالية إلى الطريق المسدود.