انضر مثال على الخلوطة لكانت صايرة فى مصر.
المفتي ينبّه الناس إلى ضرورة التقيّد بالمبادئ الإسلامية، ولكنه ليس مُحَلِّلا سياسيا. المفتي يقدِّم المبادئ، أما إسقاط المبادئ على الواقع فهذا يعرفه صاحب القضية، وهو أدرى بشؤونه.
المفتي يقول لا يجوز لأحد أن يغتصب حقّ أحد، لكن ليس من حقّه أن يقول إن زيدًا قد اغتصب حقّ عبيد، فلعل العكس هو الصحيح. والذي يحكم بذلك هو القاضي بعد أن يسمع شهادة الشهود وكل ما يتعلق بالقضية، وقد يُخطئ ويُخدع.
هذه القضية بدهية، ولكن يجهلها المُفْتون الذين يحرّم بعضهم الجدار الذي تبنيه مصر عند حدودها مع غزة وبعضهم يراه واجبًا. كان واجب هؤلاء أن يذكروا المبادئ، ثم يجعلوا تطبيقها لأصحابها؛ فهم مُفتون، وليسوا محللين سياسيين. وإذا أرادوا أن يكونوا محللين سياسيين فلا بأس، لكن يجب عليهم أن يفصلوا بين ما هو مبدأ إسلامي وبين ما هو نابع من تحليلهم السياسي للواقع، فيقولوا: هذه الفقرة نقولها انطلاقا من ديننا، وهذه الفقرة انطلاقا من فهمنا للواقع السياسي؛ وذلك حتى لا يُخدع الناس فيظنوا أن قولهم كله نابع من الدين، وأنه حقّ لهذا السبب. كما أن الناس حين يرون تناقضهم يستغربون وقد يكرهون الدين نفسه لهذا السبب، مع أن خلافهم في واقع المسألة وليس في نصوص الدين نفسه غالبا.
فقد يقول قائل: الأنفاق هي وسيلة عيشنا الوحيدة، فدعوها مفتوحة لنعيش ونقهر الصهيونية العالمية والإمبريالية. فهذه وجهة نظر.
وقد يردّ عليه آخر ويقول: هذه الأنفاق تضُرّ بنا، إذ إنها تطيل أمد هذا الحصار، ويظن الناس من خلالها أننا قد حصلنا على كل شيء، مع أنه ينقصنا الكثير الكثير، لذا فلتُغْلَق هذه الأنفاق ليثور الناس ويتغير الحال. ووجهتا النظر هذه لا علاقة لها بالإسلام، فقد يكون القائل مسلما وقد يكون مسيحيا، وقد يتفق مسلم ومسيحي على الوجهة الأولى، ويعارضهما مسلم ومسيحي ويتبنّيان الوجهة الثانية.
وقد يقول ثالث: هذه الأنفاق تساعد على خروج إرهابيين من غزة إلى مصر، وإلى هروب إرهابيين من مصر إلى غزة، أو العكس، فلا بد من إغلاقها حفاظا على أمن البلد. وهذه وجهة نظر معقولة، ومؤسَّسة على فهم الواقع، وقد تكون صحيحة وقد لا تكون، والمفتي لا يعرف ذلك.
وأقول: مصر قد وقّعت على اتفاقية بشأن معبر رفح، وتقتضي هذه الاتفاقية بأن يكون على المعبر مراقبون أوروبيون، ولكن هؤلاء لا يأتون إلى المعبر إلا والسلطة موجودة، وهذه السلطة قد أُخرجت من هناك منذ زمن، فأُغلق المعبر. فاضطر الناس للإكثار من الأنفاق تحت الأرض، والتي منها يُدخلون الضروريات، فلعلّ البعض قد ضغط على مصر لهدم هذه الأنفاق حتى لا يطول عمر سلطة حماس، أو لعلّ مصر نفسها ترى أن هدم الأنفاق يُقصِّر في عمر سلطة حماس فتستريح منها، أو لعل ذلك يضغط على حماس فتقبل بالتوقيع على المصالحة مع فتح. ومصر ترى في هذا التوقيع مصلحة للفلسطينيين أو لها.
وإذا سُئلت مصر: إنكم بهذا تجوِّعون أهل غزة قالت: بل حماس هي من يجوعهم، هي التي تسببت لهم بذلك، وهي تطيل هذا التجويع والمعاناة بهذه الأنفاق، فعلينا أن نُغلقها حتى تُحلّ المشكلة من جذورها، ولا يظل الناس في غزة أذلة يتنقّلون في الأنفاق.
هذه كلُّها تحليلات، وكلها ظَنيّات، وكلها فهم للواقع، وكلّها أقولها بصفتي إنسان ينظر إلى هذا الواقع، وليس بصفتي مفتيًا.
أما ما أقوله بصفتي مسلما: فهو إن الكذب حرام، والتحدث بلسانين حرام، وقتل الأبرياء حرام، وتجويعهم حرام، ونقض الاتفاقيات حرام، وإغلاق المعبر مِن فوق مع فتحه مِن تحت فهو خداع وكذب، والخداع والكذب حرام، وأنْ تقوم مصر بدعم المقاومة ضد إسرائيل وهي في الوقت نفسه قد وقَّعت اتفاقيات معها تمنع ذلك فهو خداع ودجل، وهذا حرام. وأنْ تَبْني مصر المعبر للضغط على حماس ثم تقول إنها تبنيه لسبب آخر فهو كذب، والكذب حرام.
فمتى يتوقف هؤلاء المشايخ عن أن يكونوا مطيّة في أيدي الحكام والزعامات السياسية والمغامرين؟ متى ينتهي هؤلاء عن استغلال الدين؟ متى يكتفون بتقديم المبادئ الإسلامية بدل خوضهم فيما لا علم لهم به؟
وليت جهلهم مقصور على فهم الواقع السياسي، بل إنهم يجهلون مبادئ الدين نفسه. وإلا فالذي يطالب مصر بأن تتغاضى عن الأنفاق مع إعلانها للعالم أنها تغلق المعبر إنما يطالبها بالخداع والكذب.