جماعات التكفير والنقاش معهم
تتفق جماعات التكفير على وجوب التكفير، ثم تختلف فيمن يجب تكفيره، وفيمن يجب التوقف في تكفيره.. كما تختلف في تحديد أسباب كفر الناس، وفيما يُبنى على الحكم بتكفيرهم.
فغالبية هذه الجماعات تقول: إن الناس خرجوا من الدين لأن ظاهرهم يوحي بذلك، فهم لا يكفرون بالطاغوت الذي هو شرط لدخول الإسلام، حيث إنهم يقبلون بأن يُحكموا بغير ما أنزل الله، بل ينتخبون ممثلين عنهم في مجالس تشريعية. وهذا الانتخاب يعني أنهم رضوا بغير الإسلام دينًا، فالذي ينتخب مشرعًا يعني أنه اختار إلهًا غير الله، وهذا شرك بواح؛ قال تعالى (إن الحكم إلا لله) وهؤلاء الناخبون يقبلون بغير الله حَكَما.
والجهل بهذا الأمر هو جهل في أصل الدين ولا يُعذر أحد به، لأنه لا عذر بالجهل في مثل هذه الأمور.. ذلك أن الإنسان لا يدخل الإسلام إلا بمعرفته أن الله هو المعبود وحده، وهذا يعني أنه هو الحاكم وحده.
أما من يرفض المشاركة في الانتخابات فإن دافعه لهذا الرفض، غالبًا، ليس الشرك المتعلق بها، بل عدم قناعته الشخصية بالمرشحين أو ما شابه ذلك من مبررات.. وأما من يرفضها مبدئيًّا فإن رفضه لها لا يتضمن تكفير من يقوم بها ويشارك فيها بالانتخاب أو بالترشيح، بل إنه لا يزال يعتبرهم مسلمين، وهذا يعني أنه جاهل بالإسلام، إذ لو علم (لا إله إلا الله) لكان أول ما قام به هو تكفير هؤلاء والبراءة منهم.
وبالتالي فإنه يُشترط للحكم بإسلام أي إنسان أن يتبرأ من هذه الانتخابات ومما يتعلق بها، وأن لا يكتفي بتكفير المشاركين فيها، بل لا بدّ من تكفير من لا يكفرهم.. وهذا ينسحب على الشعب كله؛ من حكومة وبرلمان وحركات غير إسلامية وحركات إسلامية وعوامّ.
منطلقاتهم:
يجدر أن يُعلم أن هؤلاء ينطلقون من منطلقات فقهية يرونها قطعية.. وهذه المنطلقات يتفقون فيها مع الجماعات الإسلامية غير التكفيرية.
فهم يبدءون بتكفير الحاكم بقولهم: إنه يسمح للأحزاب غير الإسلامية بالدعوة إلى مبادئها، وهذا يعني أنه لا يطبق حكم الله تعالى بقتل هؤلاء.. فهو يحكم بغير ما أنزل الله فهو كافر.
إن الاعتقاد بوجوب قتل الدعاة إلى مبادئ مخالفة للإسلام ليس مقصورًا على جماعات التكفير، بل تشاركهم في ذلك بقية الجماعات غير التكفيرية.. بيد أن هؤلاء يخالفونهم في تكفير الأنظمة لاعتبارات عقدية أخرى؛ فبعضهم يقول: لا يجوز التكفير بأي ذنب مهما عظم، لأن التكفير مقصور على الاعتقاد.. فينبري لهم التكفيريون ليقولوا: إن الاعتقاد مداره على القلب الذي لا يعلم ما فيه غير الله، وعليكم أن تكفّروا بظاهر العمل الذي يتضمن أن هذه الأنظمة تحكم بغير ما أنزل الله.. وتضع تشريعات مخالفة للإسلام.
طريقة نقاشنا معهم مختلفة:
في حوارنا مع جماعات التكفير لا نسلك طرق الجماعات الأخرى الملتوية، ذلك أن جماعات التكفير أصدق منها، فقد طبّقت ما تؤمن به نظريًّا، بينما الجماعات الأخرى حاولت التملص من الموضوع.
أما نحن فنقول لهم بصراحة ووضوح:
إن هناك عددًا من الأحكام الفقهية الباطلة المخالفة للقرآن العظيم هي التي جعلتكم تقعون في هذا المطبِّ الخطير. وهي مبنية على إنكار الحرية الدينية التي نصّها القرآنُ العظيم بقوله تعالى (لا إكراه في الدين) وبآيات أخرى.
إن عدم تقدير هذه الآيات حقّ قدرها جعل هؤلاء يقولون بأحكام تخالفها تماما؛ ومن أهم هذه الأحكام:
-قتل الذي يحكمون أنه غيّر دينه.. سواء غيّره حقيقة أم اتُّهم بذلك.
-منع المخالفين من الدعوة إلى مبادئهم، سواء كانوا أهل كتاب أو ملاحدة أو فرقًا إسلامية مخالفة.
-إجبار غير المسلمين بالتحاكم إلى الشريعة الإسلامية، وبوجوب إخضاعهم بالقوة لنفوذ الدولة الإسلامية.
-وجوب القتال لنشر الإسلام بالقوة، ووجوب قتال الناس أجمعين؛ محاربين ومسالمين.
وأول ما يُبنى على ذلك هو أن تكفير الأنظمة الحاكمة من هذا الباب لا يصحّ. كما لا يصحّ تكفير المجلس التشريعي من الباب ذاته، فطالما أنه لا إكراه في الدين، فهذا يعني أنه لا إكراه في قبول أي عقيدة ولا في الانقياد لأية شريعة؛ فالدين عقيدة وشريعة، وحرمة الإكراه في الدين تتشمن حرمة إكراه أي شخص على قبول أية عقيدة، وحرمة إجباره على التحاكم لأية شريعة.
وعندما يجدون صعوبة في استمرارية النقاش في هذا الباب، وبخاصة عندما نتحداهم أن يأتوا بآية قرآنية تنقض ما نذهب إليه، يفرون من هذا الباب إلى غيره فيقولوا: إن مبررات كفر الحكام أكثر من أن تحصى.
ولو سئلت احدهم و قلت له بعد هذا الحوار: هل بقي لديك دليل على كفر الأنظمة بعد أن تمّ تفنيد هذا الدليل؟
قال: إن النظام الحاكم في بلدنا وفي غيره يحارب الدعوة الإسلامية ويزج بالدعاة إلى السجون إن لم يقم بقتلهم.. وهذا دليل على كراهيته الشديدة للإسلام.. وهذا كفر بواح.
وتقول له إنك لا تستطيع أن تثبت أنه يكره الإسلام ويحاربه، فهو يدّعي-على الأقل، ونحن لنا الظاهر- أنه يحارب أدعياء الإسلام ممن يعملون على تشويهه، وهو في ذلك يدّعي أنه يقتفي آثار أهل السنة في محاربتهم الخوارج عبر القرون الغابرة، فحربه لهذه الحركات لا يعني بالضرورة حربه للإسلام، وحيث إنه تعدد الاحتمال بطل الاستدلال.
وبعدها ياتى تكفيري آخر بدليل ثالث على كفر الأنظمة، حيث قال: إن وجود خمارة واحدة في الدولة يدل على كفر النظام الحاكم، لأنه رخّص لها حسب القانون، وهذا يتضمن إباحة الخمر، وليس ثمة خلاف على أن تحليل الحرام كفر بواح.
قلت: إن مجرد فتح الخمارة ليس حرامًا ولا ممنوعًا، بل إن شربها هو الحرام، أما بيعها من قبل غير المسلمين لغير المسلمين جائز ولا شيء فيه.. فمن حقّ غير المسلمين أن يشربوا الخمر، ويحرم على المسلمين فقط شربها. أما مراقبة البيع والتأكد أنه محصور في غير المسلمين فهذا من باب التجسس غير الجائز… أما حدّ شارب الخمر، فليس عليه دليل من القرآن الكريم، وعقوبة الشارب هي تعزيرية تختلف من شخص لآخر حسب المكان والزمان والظروف المحيطة، وهي ليست عقوبة على مجرد الشرب، فهذا يعاقب عليه اللهُ يوم القيامة، بل هي عقوبة على ما يترتب على السُّكْر من أضرار محتملة على المجتمع.
وهاجمني آخر بقوله: أنت تدافع عن أنظمة كافرة لا تطبّق الشريعة الإسلامية، وعدم تطبيقها دليل بيّن على كفرها.
فسألته: عن أية شريعة تتحدّث؟ هل هي الشريعة التي تعدم المخالف فكريا تحت مبرر قتل المرتد؟ هل هي الشريعة التي تمنع المسلم من فرقة أخرى بالدعوة إلى مبادئه تحت مبرر محاربة أهل البدع؟ هل هي التي تؤفغن بلادنا؟ هل هي التي تأمرنا بوجوب الإيمان بانبساط الأرض وعدم كرويتها؟ هل هي التي توجب على السّني أن يضمّ دولة الشيعي لأرضه، كما توجب على الشيعي أن يحارب السنّي المغتصب؟
وما دام المسلمون مختلفين في أمور جوهرية متعلقة بالشريعة؟ وما دام تطبيقها يؤدي إلى إراقة دماء بريئة أفليس حريًّا التّأني بتطبيقها والبحث في ماهيّتها قبل تطبيقها؟
وتدخل تكفيري رابع ليقول: أنت تبذل قصارى جهدك للدفاع عن أنظمة عميلة باعت البلاد والعباد.
قلت: بل أبذل جهدي لتصحيح الأسس الواهية التي من خلالها حكمتم بكفر المجتمع كله، ثم أخذتم تحاربونه وتقتلون مواطنيه وتسْبون أهله. ثم إنني أبذل جهدي لأريحكم من عناء ما تُحْرِمون أنفسكم منه من دون دليل شرعي؛ فأنتم تُحْرِمون أنفسكم من شراء اللحوم بحجة كُفْرِ مَنْ ذَبَحها، وأنتم لا تلقون السلام على أحد بحجة حرمة إلقاء السلام على غير المسلمين، وأنتم لا تصلّون في مساجد الناس بحجة أنها مساجد الضرار.. وغير ذلك، مما يتسبب في كراهية وعداء بينكم وبين أهلكم ممن قد ينتمي إلى جماعة إسلامية مخالفة تسعى هي الأخرى لتطبيق الشريعة.
وهم يختلفون بعض الشيء في ترتيب النقاش، ففي مجادلة بالحسنى مع أحدهم قال: هناك من يدافع عن وجوب قتل الجواسيس، ويدعو إلى التريث في قتلهم، واعتبارهم مسلمين.. وهذا كله يدل على جهل هؤلاء بالدين.. أي أنهم كفار مارقون وهذا حال المجتمع بشكل عام.
قلت له: ما دليلك على أن الجاسوس قد خرج من الدين بتجسسه لصالح الكافرين المعتدين؟ ثم ما دليلك على وجوب قتله إن كان قد كفر وخرج من الدين بعمله؟
قال: قوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم).
قلت: قبل تفسير الآية، ما رأيك بقصة حاطب الذي أرسل لقريش يخبرهم بقدوم جيش المسلمين إلى مكة؟ أليس عمله خيانيًّا إجراميًّا لا مثيل له في تاريخ التجسس؟
قال: لكنه شهد بدرا؟ وفي الوقت ذاته فهو قد كفر... بدليل تكفير عمر له وإقرار الرسول لعمر بذلك.
قلت: هذه رواية واهية، والصحيح أن عمر دعا لمعاقبته قتلاً، ولم يتحدث عن كفر وإيمان.. ثم إن الذين يدافعون عن قتل الجواسيس يرون وجوب التفريق بين جاسوس مبتدئ وجاسوس عريق .. وهم في تفريقهم هذا يودّون أن يصلح حال هؤلاء الجواسيس ويعودوا إلى رشدهم ويتوبوا من جريمتهم المنكرة.. وهذا لا يدل على كفر هؤلاء الناس، بل على إخلاصهم وحبهم لصلاح أبنائهم المنحرفين.
وعندما يعجز أحد التكفيريين عن إثبات كُفْر الناس من باب يفتح بابا آخر، وهكذا.. لكن يجدر ملاحقة أبوابه كلها والعمل على إغلاقها قبل فتحها بأدلة لا تقبل الردّ.
الديمقراطية والإسلام:
إن الأسس التي تؤصَّل على (لا إكراه في الدين) كفيلة بالردّ على من يقول: إن الديمقراطية نظام كفر.. بل يجب القول: إن الديمقراطية أسلوب من أساليب الحكم، وهذا الأسلوب في إيصال الحاكم إلى الحكم يتفق مع قوله تعالى (لا إكراه في الدين).. فهذا النص القرآني يحرم أن نجبر أحدا على اعتناق عقيدة أو اتباع شريعة.
نعم، إننا نعلم أن الديمقراطية تتضمن أن يكون الحكم للشعب، وأن يكون التشريع بيد البشر؛ يحكمون أنفسهم بأنفسهم. أما في الإسلام فإن الحكم لله تعالى، وإن القرآن والسنة هما مصدرا التشريع. ومن هنا فإن التعارض واضح بينهما. ومن اختار أن يُحكَم بالقوانين التي يضعها الناس، بدل الأحكام التي شرعها الله، فليس بمسلم، بل اختار دينا آخر.
بيد أن هذا لا يعني أنْ نجبر الآخرين على التحاكم إلى القرآن والسنة، بل لا يحق لنا أن نجبرهم على دخول الإسلام، فمن باب أولى عدم جواز إجبارهم على التحاكم إلى الإسلام. وحيث إنه لا يمكن أن يعيش الإنسان وحده، بل يعيش مع أناس في مجتمع؛ كان لا بد من قوانين تحكم هذا المجتمع، وكان لا بدّ من أن تكون القوانين حسب ما يريد الناس، فالمسلم لا يقبل بالقوانين الاقتصادية الاشتراكية التي تحرم التملك الفردي، ولا يقبل بالقانون الرأسمالي الذي يبيح الربا. لذا لا يمكن للمسلمين في دولة إسلامية إلا أن يختاروا القانون الإسلامي ليحكم بينهم. وهكذا الرأسماليون لا يمكن أن يختاروا الإسلام الذي يحرم الربا ليحكم بينهم، بل سيختارون قوانين تتوافق مع مصالحهم وغاياتهم. لكن المشكلة تكمن في وجود دولة يسكنها مسلمون وغير مسلمين، فَلِمَنْ يكون الحكم فيها؟ أللمسلمين، أم لغيرهم؟
الأحكام منها ما هو شخصي، ومنها ما هو عام، وإذا اتفقنا أن لا يتدخل الحاكم بخصوصيات كل ملة أو مذهب، صار التفاهم ممكنًا. فإذا حكم المسلمون فلا يجوز لهم أن يعترضوا على قوانين الأحوال الشخصية لدى الآخرين، ولا على عباداتـهم، ولا على ما هو محرم أو مباح في شريعتهم الخاصة. أما في الأحكام العامة فمن حق الحاكم أن يحكم بالشريعة التي يراها أكثرية الناس. ومن خلال مبدأ العدالة التي أرسى قواعدها الإسلام، فإن ديننا العظيم لا يقبل أن تُجبر الأكثريةُ على الانصياع لحكم الأقلية. والمعنى إذا رضي غالبية الناس على أن يتحاكموا إلى غير الإسلام، فإنَّ على الأقلية المسلمة أنْ لا تقف حجر عثرة أمام رغبتهم.. بشرط ألا يكون اختيار الأغلبية لأحكام تجبر المسلم على عصيان الله تعالى وأوامره.
من خلال هذا التخريج فإن الديمقراطية ليست نظام كفر، بل هي أسلوب في إيصال الحاكم إلى سدّة الحكم.. وهذا الأسلوب لا يعارض الإسلام.
الجماعات الإسلامية التكفيرية وغيرها والديمقراطية:
إن جماعات التكفير المختلفة أقدر في النقاش مع الجماعات الإسلامية غير التكفيرية، ذلك أن المنطلقات التي ينطلقون منها واحدة ومتفق عليها، بيد أن التكفيريين يلتزمون خطّ هذه الأفكار مهما كانت النتائج، أما الآخرون، فإنهم يقفون وسط الطريق أو يتراجعون..
لذا فإن جماعات التكفير أصدق من غيرها.. وبالنسبة إلينا، فلا يجوز أن نبدأ بنقاشهم من النتائج التي توصلوا إليها، بحيث نحاججهم بأن ما يترتب على التكفير صعب لا يمكن التزامه وتطبيقه، ولا أن نحاججهم بأنهم أتوْا ببدع لم يُسبقوا إليها.. فهذا كله مضيعة للوقت ومحاولة لكسب الجمهور عاطفيًّا.. وقد سمعت نقاشًا بين تكفيريٍّ ومسلم حركيٍّ متعصب سأل فيه التكفيريَّ: المسلم لا يرث الكافر، فهل ستمتنع عن أخذ نصيبك من ميراث أبيك؟ قال التكفيري: بالتأكيد. فقال المتعصب: سننتظر ونرى.
وكأن المسألة ستُحلُّ عند هذه النقطة، وكأنّ هذا التكفيريَّ إذا ورث أباه فإن فكر التكفير ينهار!!
لذا لا بدّ من النقاش في الأصول وليس في الفروع والنتائج. وهذا النقاش في الأصول لا يتقنه مسلم من غير الأحمديين، اللهم إلا المتأثر بأفكارهم حول الحرية الدينية ومفهوم الجهاد.
غموض الوسطيين
الذين يطلقون على أنفسهم دعاة (الإسلام الوسطي) أو أتباع المنهج الوسطي يجدون حرجًا في مناقشة التكفيريين في موضوع كفر الحكام والشعوب، فما دام الناس ينتخبون آلهة مع الله فكيف يظلون مسلمين؟! وهم في الوقت ذاته يجدون حرجًا في مناقشتنا، ذلك أنه كيف يوفقون بين مناداتهم بالتعددية وهم في الوقت ذاته يقولون بقتل كل مرتدّ؟! لذا فإنهم ضعفاء عند مناقشتنا وضعفاء عند مناقشة خصومنا التكفيريين. ولا يجدر تسميتهم بالوسطيين، بل يحسن أن نطلق عليهم اسم المنافقين، أو الغامضين. هؤلاء الغامضون هم المحرك الأقوى للتكفيريين؛ ذلك أنهم، بضعف أدلتهم وتناقضها، يمنحون التكفيريين ثقة عالية بأطروحاتهم.