[size=24]كان الموعد: الخامس من كانون الثاني/ يناير 2012 والمكان: البنتاغون، أما الحدث: الرئيس أوباما محاطاً بقادة عسكريين من رتب عالية، يعلن عن انتهاج إستراتيجية دفاعية جديدة تركز على المصالح الإستراتيجية
للولايات المتحدة في عالم سريع التغير بعد انقضاء عقد من الحرب في العراق وأفغانستان، وكانت هذه المرة الأولى التي يعلن فيها رئيس عن إستراتيجية دفاعية أمريكية في البنتاغون، وهو مقر وزارة الدفاع وقيادات القوات المسلحة، وقال الرئيس: "إن مؤسستنا العسكرية ستكون أصغر حجماً إلا أن العالم يجب أن يعي أن الولايات المتحدة ستحافظ على تفوقنا العسكري بوجود قوات مسلحة خفيفة الحركة ومرنة وجاهزة لكامل نطاق الحالات الطارئة والتهديدات".
وتستند تلك الإستراتيجية الدفاعية على فكرتين أساسيتين:
باتجاه منطقة آسيا والمحيط الهادئ .
الفكرة الأولى: الإبقاء على الاستثمارات في القدرات التكنولوجية المتقدمة للجيش الأميركي التي يمكن احتياجها في المستقبل.
الفكرة الثانية: عدم التركيز كثيراً على العدد الكبير للقوات المسلحة، لكن دون التضحية بالخبرات السابقة.
إستراتيجية دفاعية جديدة مع ميزانية دفاعية تقشفية:
تعكس الإستراتيجية المستحدثة تحولاً في التفكير الإستراتيجي والحقائق التي تكتنف موازنة أمريكية قومية أكثر تقشفاً ألزم الكونجرس بالتقيد بها، وتستند الإستراتيجية إلى مراجعة دفاعية شاملة من قبل قادة عسكريين ومسؤولين مدنيين في البنتاغون ووزارة الخارجية والأمن الوطني وشؤون المحاربين القدامى.
وقد أوعز أوباما بإجراء المراجعة كي يسترشد بها واضعو الخطط والأولويات الدفاعية على مدى عقد سيشهد تخفيضات في النفقات الدفاعية تزيد على 450 بليون دولار.
وفي العام 2012 أصدر الكونجرس (قانون ضبط الموازنة) الذي يقتضي فرض اقتطاعات في إنفاق الحكومة الفيدرالية عبر كامل شرائح الحكومة بما في ذلك الإنفاق الدفاعي، والملاحظ أن الولايات المتحدة في الوقت الذي أعلنت فيه عن إستراتيجية الدفاع الجديدة، وأنها ستخفض الإنفاق على الدفاع لا تزال تواصل إنفاق المزيد من الأموال على قواتها المسلحة من ميزانية الدفاع التي تعادل أكبر الميزانيات الدفاعية في 10 دول مجتمعة بعد الولايات المتحدة، كما ركزت الإستراتيجية الجديدة أيضاً على أهمية البحوث والتطوير في مجال الدفاع؛ ولذلك سيكون من المبالغة القول إن خفض الموازنة وتقليص القوات من شأنه أن يضعف الدفاع الوطني للولايات المتحدة .
التحول من إستراتيجية النصر المزدوج إلى إستراتيجية النصر الإفسادي:إن جوهر الإستراتيجية الدفاعية الأمريكية الجديدة يشكل تحولاً عن الإستراتيجية التي تم تبنيها لفترة طويلة والتي تسمى (إستراتيجية النصر المزدوج)، والتي مفادها الدعوة إلى القدرة على القتال وكسب حربين رئيستين في الوقت نفسه، وبدلاً من ذلك فإن القوات الأمريكية ستمنع تماماً الأهداف العدوانية لدولة معتدية في إحدى المناطق، بينما تمنع أهداف المعتدي في
منطقة ثانية، وسائل الإعلام تصفها بأنها (إستراتيجية النصر الإفسادي)التي بموجبها تركز الولايات المتحدة على القتال في حرب واحدة وقمع أو (إفساد) الاستفزازات لدولة معتدية في حرب أخرى.
إن التحول من (إستراتيجية النصر المزدوج) إلى (إستراتيجية النصر الإفسادي) يعتبر تغيراً كبيراً، ويتضمن خفضاً للقوات، والبنتاغون لم يعلن رسمياً بعد عن حجم خفض القوات، لكن وسائل الإعلام ذكرت أن الجيش ومشاة البحرية قد يقللان العاملين بنحو100 ألف ولا يرى معظم الخبراء أن هذا مستوى مثير للقلق، فقبل اندلاع الحرب العراقية زادت الولايات المتحدة من قواتها بسبب الحرب، وهي تسعى الآن لخفضها مع نهاية الحرب، فقبل الحرب كان حجم القوات البرية الأمريكية480 ألف جندي، والآن يعتزم الجيش تقليص حجم قواته من 570 ألف جندي إلى 490 ألف جندي؛ لذلك فإنه حتى بعد خفض القوات فإن الجيش لا يزال له فائض من الجنود يبلغ 10 آلاف مقاتل مقارنة بحجمه قبل الحرب.
إستراتيجية الدوران بديل لسياسة الاحتواء:لحظ عدد من المحلليين الإستراتيجيين أن الولايات المتحدة لم يعد لديها اليوم خيار في محاولة تطبيق سياسة الاحتواء على الصين، وأن إستراتيجيات الحرب الباردة لن تنطبق على الصين.
أستراليا و إستراتيجية الدوران:تعتزم الولايات المتحدة توسيع علاقاتها العسكرية مع أستراليا على نحو شامل بما في ذلك استغلال جزيرة مرجانية في المحيط الهندي لاستخدامها في تحليق طائرات أميركية بدون طيار، فضلاً عن الاستفادة من الموانئ الأسترالية من قبل قطع الأسطول الأميركي، وتأتي هذه التحركات والتقارب بين أستراليا والولايات المتحدة الذي أثار انتباه المراقبين استكمالاً للاتفاق المعلن عنه بين البلدين.
دول آسيوية أخرى مركزية في إستراتيجية الدوران: كما تعمل الولايات المتحدة في إطار إستراتيجيتها الجديدة على نشر أربع سفن حربية بسنغافورة، وفتحت مفاوضات مع الفلبين بشأن تعزيز الحضور الأميركي على أراضيها، بالإضافة إلى سعي البنتاجون _وإن بشكل أقل_ إلى تطوير العلاقات العسكرية مع تايلاند وفيتنام وماليزيا وإندونيسيا وبروناي.
والسؤال هنا: ما الذي يدفع تلك الدول إلى الانخراط في الإستراتيجية الأمريكية؟
هناك عديد الدول الآسيوية التي لها قلق وهواجس ومخاوف من الصين، فهناك مثلاً مطالبة الصين باسترداد تايوان التى تعتبرها جزءاً من أراضيها، وهناك اليابان والجزر المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي، وهناك النزاع الصيني الفيتنامي حول جزر مرجانية مشابهة، والجدير بالذكر أن العلاقات بين البلدين تشهد توتراً مستمراً منذ أن خاضا حرباً حدودية عام 1979، وانخرطا في صدامات متقطعة في البحر حول جزر(سبراتلي) وسلسلة جزر أخرى وهي (باراسيلز)، وعلاوة على فيتنام هناك ماليزيا، وبروناي اللتان تدعيان سيادتهما على بعض من تلك المناطق، كما أن الحكومة الفلبينية كثفت محادثاتها مع الإدارة الأميركية كي توسع هذه الأخيرة وجودها العسكري في الفلبين، ومن بين الخيارات المطروحة إجراء مناورات عسكرية متكررة، ونشر قوات أميركية، وتشغيل القطع البحرية، علماً بأن الفلبين كانت قد أغلقت قاعدتين عسكريتين أميركيتين هما قاعدتها البحرية في خليج سوبيك وقاعدة كلارك الجوية في الفلبين خلال عامي 1992 و1993، ومن ثم فإن السياسة الإقليمية التي تنتهجها الصين في نزاعاتها في مختلف أنحاء آسيا يخشى أن تؤدي بسرعة إلى تشجيعها على التأكيد على مطالبات إقليمية وبحرية ضد جيرانها تمتد من اليابان إلى الهند، فحتى في مواجهة بوتان الصغيرة صعدت الصين مطالباتها بأراض هناك من خلال توغلات عسكرية، وقد سجل التوسع العسكري الصيني نمواً سنوياً كبيراً طيلة الـ 22 عاماً، وأما الإنفاق العسكري الصيني فيتجاوز بالفعل نظيره الياباني بنسبة 15%، وهناك مخاوف عامة ناشئة في آسيا من احتمال سعي الصين إلى استخدام قوتها البحرية المتنامية لفرض هيمنتها، ليس فقط على عملية تنمية مياه بحر الصين الجنوبي الغنية بالنفط والغاز، بل وأيضاً على طرق الشحن التي تمر عبره، والتي تُعَد من أكثر طرق الشحن البحرية ازدحاماً بالحركة على مستوى العالم؛ لذا فإن تلك الدول تريد تأكيد الولايات المتحدة لالتزام أميركا بتعزيز الأمن البحري في المنطقة المحيطة بالصين، وترى تلك الدول أن طموح الصين يتسم باستعراض العضلات ما يدفع بتلك الدول إلى الشك في نوايا الصين، وأن استعداد الصين لاستعراض قوتها الجديدة لا يقتصر على الأرض، بل إن طموحات الصين البحرية
لا نهاية لها، فحين قام الأدميرال تيموثي جيه كيتنج قائد الأسطول التابع لسلاح البحرية الأميركية في المحيط الهادئ بزيارة الصين في عام 2007 اقترح أحد كبار قادة البحرية الصينية ترسيم (منطقة سيطرة) عند هاواي لتعيين حدود نفوذ البحرية الأميركية وبداية المجال البحري للصين، ومن المعتَقَد أن البحرية الصينية تحاول الآن تحقيق ذلك الهدف.
مناورات ريمباك 2012 في هاواي أكبر مناورات بحرية في العالم. انطلقت المناورات السنوية البحرية (ريمباك) بالقرب من سواحل هاواي في المحيط الهادي في 29يونيو 2012، وشارك في المناورات التي يعني اسمها (حافة المحيط الهادئ) 22 دولة، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وروسيا والهند وكوريا الجنوبية، واستمرت حتى يوم الأول من أغسطس، وهي مناورات انطلقت من جزر هاواي الأميركية الواقعة في المحيط الهادي، وتعد (ريمباك) التي عقدت عام 2012 دورتها الثالثة والعشرين أكبر مناورات بحرية مشتركة على مستوى العالم، والهدف منها هو ضمان سلامة الطرق البحرية في منطقة المحيط الهادئ، وزيادة القدرات القتالية ضد الأعمال الإرهابية في البحر.
وتم إجراء تلك التدريبات البحرية من خلال39 سفينة قتالية، وست غواصات، و200 طائرة، بالإضافة إلى حوالي 2500 جندي.
وقد أرسلت-على سبيل المثال - كوريا الجنوبية للمناورات مدمرتها البحرية الثانية (يول غوك يي إي- تشيه يونغ) والغواصة (تشانغ بوغو)، والطائرة المضادة للغواصات (نا ديه يونغ)، والطائرة المروحية المضادة للغواصات (لاينكس).
انتقادات موجهة لإستراتيجية الدوران: :هناك بعض الانتقادات الموجهة إلى المحورالباسفيكي، فهم يقرون أن تكوين قوة أميركية كبيرة في الباسيفيكي أمر مهم ومنطقي على اعتبار أن الصين قوة صاعدة تمثل تهديداً طويل الأمد إلا أنهم يرون أن الولايات المتحدة ليست بحاجة لـ(محور باسيفيكي كامل)، على الأقل ليس للقوات البرية؛ لأنه ليس بمقدورالولايات المتحدة الأمريكية إهمال منطقة مثل منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر المركز الحقيقي لاهتمامات الولايات المتحدة الأمريكية الأمنية، وظلت كذلك لما يزيد على ثلاثة عقود على الأقل.
وفي معرض التساؤل عن الذي يجب إعادة موازنته السفن والطائرات، يستند المحللون إلى تقرير المعهد البحري الأميركي الذي يذكر أن الصين تتفوق على الولايات المتحدة في مجال بناء الغواصات الجديدة بمعدل 8 إلى 1 منذ عام 2005 في منطقة الباسيفيكي، كما قدرت لجنة مشكلة من الحزبين الرئيسيين العام الماضي أن البحرية الأميركية سوف تحتاج إلى346 فينة حتى يمكنها مواجهة التزاماتها العالمية.
ولكن ونتيجة للخفض في الميزانية فإن الأسطول الأميركي سوف يتقلص من 282 سفينة في الوقت الراهن إلى ما لا يقل عن 250 سفينة خلال العقد القادم.
على نفس المنوال ولأسباب خاصة بخفض الميزانية تشير البيانات الرسمية إلى أن القوات الجوية الأميركية قد توقفت عن شراء الطائرة إف-22 التي تعتبر أكفأ مقاتلة في العالم، كما أنها تقوم على نحو منتظم بتخفيض مشترياتها المخططة من الطائرة إف-35 التي تعتبر ثاني أفضل طائرة مقاتلة في العالم.
أما فيما يتعلق بالجيش وسلاح المارينز فإن تحويل بؤرة الاهتمام للباسيفيكي سيكون بمثابة نصيحة سيئة.
فحالة الطوارئ الوحيدة التي يمكن أن تستدعي نشر قوات برية في المنطقة هي تلك الخاصة بنشوب حرب أخرى في شبه الجزيرة الكورية، أو تهاوي النظام الحاكم في بيونج يانج من الداخل، وحتى في مثل تلك الحالة فإن القوات البرية لكوريا الجنوبية ستكون هي التي تتولى القيادة في حين سيقتصر دور الولايات المتحدة
أساساً على توفير المعلومات الاستخبارية والقوة الجوية، وإذا تم استثناء هذا الاحتمال الكوري فإن وجود الجيش والمارينز في الباسيفيكي سوف يقتصر في كافة الاحتمالات على التدريب مع القوات البرية للدول الأخرى الحليفة.
لذلك يرى المنظرون أنه بدلاً من دفع الجيش وقوات المارينز إلى تحويل محور اهتمامها نحو الباسيفيكي فإن النصيحة الأفضل التي يقدمونها للإدارة الأميركية هي أن منطقة الباسيفيكي سوف تظل أساساً مسرحاً بحرياً وجوياً لقواتها، وهو ما يعني بكل تأكيد أنه بمقدورالولايات المتحدة العمل على زيادة موجودات واشنطن ومعداتها البحرية والجوية في آسيا مع ترك الجيش وسلاح المارينز كي يتحركا بحرية في الأماكن التي كانا مشغولين فيها للغاية خلال العقد الأخير، والتي يتوقع أن يظلا مشغولين فيها لسنوات قادمة أي: منطقة الشرق الاوسط.
والواقع أن المنظرين الأمريكيين يرون أن إستراتيجية الدوران لا تعني أن منطقة الشرق الأوسط لا تشكل أهمية أو أن الولايات المتحدة لا بدأن تتجاهلها، بل إن الأمر على العكس من ذلك، فالمنطقة لا تزال تحتوي على احتياطيات هائلة من النفط والغاز، وهي تشكل جزءاً من العالم حيث ينشط الإرهابيون وتشيع الصراعات، فإيران باتت اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى إنتاج الأسلحة النووية، وإذا حدث هذا فإن دولاً أخرى قد تحذو حذوها، هذا فضلاً عما تشهده المنطقة الآن من اضطرابات سياسية داخلية قد تؤدي إلى عواقب تاريخية.
وهناك أيضاً إسرائيل، ولكنهم يرون أنه بعيداً عن كون القرن الحادي والعشرينقرناً أميركياً آخر أو غير أميركي، فمن المؤكد أنه القرن الذي سوف تضطلع فيه منطقة آسيا والباسيفيكي بدور بالغ الأهمية.
إنه من الطبيعي والمعقول أن تمثل الولايات المتحدة كياناً محورياً في صياغة وتشكيل كل ما قد ينشأ عن هذه الحقيقة، ولكن الخلاف ما يزال حادا بين صفوة المنظرين الإستراتيجيين الأمريكيين بشأن هذه الإستراتيجية وتداعياتها على منطقة الشرق الأوسط.
عدم التركيز كثيراً على العدد الكبير للقوات المسلحة، لكن دون التضحية بالخبرات السابق
000ff]]الدكتور/ عبدالعظيم محمود حنفي - أستاذ العلوم السياسية زميل كلية الدفاع الوطني/ أكاديمية ناصر العسكرية العليا مدير مركز الكنانة للبحوث.............................................................................