الهزيمة لا تأتي مصادفة
إن التحليل الخاطئ للأحداث التاريخية يؤدي إلى مضاعفات خطيرة؛ ذلك أن الفائدة من التاريخ هي أخذ العبرة لفهم الواقع والتخطيط للمستقبل، فإذا كان التحليل خاطئا كانت دراسته تُحدث من الأضرار الكثير.
وكثيرا ما ترفض الأمم الاعتراف بأخطائها التي أنتجت لها الهزيمة، بل تحاول أن تضع اللوم على عامل خارجي، وهذا كله يؤدي إلى تحليل خاطئ للأحداث، وبالتالي لن تستفيد الأمة من درس التاريخ، بل تتضرر.
والعامّة من الناس حين يفسرون الأسباب التي أدّت إلى هزيمة ما، تراهم يربطون ذلك بحدث واحد، وهذا الحدث كان يمكن أن لا يحدث عندهم، لكنّ الخيانة أو المؤامرة أو العامل الخارجي أو المصادفة أو الحظ العاثر كان وراء ذلك. وهم يرفضون أي تحليل يقود إلى كشف عوامل الهزيمة في مجتمعهم وفي تربية أفرادهم وفي خطأ قيادتهم الفادح.
فلا زال كثير من الناس يروْن أن سبب نكبة 48 هو الهدنة الأولى، التي لولاها لتم استئصال عصابات الصهاينة. ذلك أن هذه الهدنة أتاحت للصهاينة التزود بالسلاح، بينما ظلّ العرب مكانهم يدورون! ويرى آخرون أنه لو يسّرت الحكوماتُ لجماعة الإخوان المسلمين وحدها الطريق ولم تمنعها من الجهاد، لأبادت تلك العصاباتِ الصهيونيةَ عن بكرة أبيها!!
وهكذا الحال في نكسة 67 التي يروْن أن سببها كامن في مهاجمة الطائراتِ المصرية وهي جاثمة في مطاراتها، وكأنها لو لم تُهاجَم لقُضيَ على إسرائيل واسترحنا من شرّها. أولم تكن هذه الطائرات ستُسقط في الجوّ لو حلّقت؟ ألم تسقط الطائرات السورية في حرب 82 تِباعًا؟ وهل يمكن لنا أن ننتصر بسلاح نشتريه من عدوّنا الذي يريد نُصرة إسرائيل، ويصرّ على بقائها؟
ولا يختلف الحال عن خروج المنظمات الفلسطينية من بيروت بعد حصار دام ثلاثة أشهر عام 82، حيث قال البعض: كان على الفلسطينيين أن يصمدوا، لأن إسرائيل لن تصبر طويلا وستنسحب بعد حين.
الحقُّ أن هذه تحليلات مجسِّدة للأمنيات وليست تعبيرا عن الواقع. وليس من الحكمة أن نحلل الأحداث حسب ما نتمنى حصوله، بل يجدر أن يكون حسب ما هو كائن، حتى لو كان بعكس رغبتنا.
أما نكبة 48 فأسبابها كثيرة، وليس للهدنة الأولى أي دور يُذكر، كما ليس لخيانة الأنظمة ذلك الدور المبالغ فيه-هذا إن كانت خائنة فعلا. لقد ظلّ اليهود يبنون قواتهم ويحصّنون مستوطناتهم ويقوّون جبهتهم الداخلية طوال عقود، وظلّت بريطانيا المجرمة تدعمهم خلال ذلك كله، وظلت تيسّر سبل هجرتهم إلى بلادنا. ولم تَخرج إلا بعد قرار التقسيم الذي منحهم نصف فلسطين.
أما عرب فلسطين فظلوا في انقساماتهم يعمهون، وظلّ الفقر المدقع قاسمًا مشتركًا بينهم بعد أن عزّت الوحدة الوطنية. أما الدول العربية فكانت محتلة أو حديثة الاستقلال، وكانت دولا قد بلغت من الضعف الغاية. فهل يمكن لهؤلاء مواجهة عصابات مدرّبة تدريبًا راقيًا، ومجهزة بأحدث معدات القتال، ولا ينقصها قوت سَنَتها، بَلْهَ قوت يومها. ثم هي تقاتل من حصونها وليست مكشوفة.. ثم الأهم من ذلك كله أن إسرائيل قد قامت بقرار ظالم من مجلس الأمن الذي لن يتوانى عن نصرتها.. بل إن قائد الجيوش العربية كان بريطانيا، فهل يُعقل أن يعمل هذا الرجل على إبادة إسرائيل التي تعهدت بلاده بإقامتها!!
إذن، ليس سبب النكبة واحدا، بل أسباب مركبة.
وهكذا الحال في النكسة، فليس حتمًا أن في الأمر خيانة، ولو لم تقصف الطائرات لطالت الحرب، لكن النتيجة لن تكون أفضل من نكسة. لأن الأوضاع هي ذاتها.
وهكذا الحال لو حاول العرب الآن إبادة إسرائيل وهم فيما هم فيه.. ضعف وتمزق وتخلف تكنولوجي وطبّي وزراعي وتجاري ووَحدوي.. إنهم يتقنون فنّ اعتقال المفكرين، وفن تصفيتهم.. إن الدكتاتورية قد زالت من العالم كلّه سوى عند حكام العرب وأحزابهم. إن الحاكم العربي يبقى حاكما حتى الممات، وهكذا قائد الحزب! فأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة مادية وفكرية قبل أن تواجهوهم.
إن معرفة الداء ركن رئيس لتحديد الدواء، وإذا ظلّ مجتمعنا جاهلا بدائه، فمتى يتناول دواءه؟ وهل يشفى من دون الدواء؟
إن من أهم أضرار التفكير التقليدي حول عامل الهزيمة الأحادي المؤامراتي، أنه لا يدفع المواطن إلا إلى الانعزال والكراهية والشعور بالعجز والسلبية. بينما يدفعه التحليل الشامل للهزيمة إلى العمل على سدّ الأبواب التي من قِبَلِها نؤتى.
هاني طاهر