ثالثاً: صعوبة اختيار محاور العمليات، ذلك أن المسالك والدروب عبر شعاب الجبال ووديانها عادة ما تتشكل عبر أزمنة متطاولة، مما فرض على الإنسان المقاتل استخدام ما هو متوافر من الطرق والمسالك، والعمل على تحسينها وتطويرها من أجل تلبية متطلبات التحركات العسكرية الكبيرة والكثيفة. ولقد أصبحت الوسائل الهندسية المتوافرة (الجرافات والحفارات وآلات التسوية ..إلخ) قادرة على تقديم المساعدات الضرورية لشق الطرق، وصنع محاور جديدة للعمليات، ولكن ذلك يحتاج إلى مزيد من الوقت، وهو ما يتناقض مع متطلبات الحركة (السرية والكتمان) كما أن التزام القوات بمحاور محددة تفرضها الطبيعة الجبلية، تجعل هذه المحاور هي الأكثر عرضة للتهديد والخطر، لأنها تستقطب إليها جهود القوات المتصارعة على مسرح العمليات.
رابعاً: صعوبة الأعمال القتالية الجبلية، فالأعمال الهجومية في الجبال تحتاج لإعداد خاص. وتدريب شاق نظراً لما يفرضه التحرّك في الجبال والمناورة من جهد كبير كما أن الأعمال الدفاعية تحتاج بدورها للتكيّف مع احتمالات نقص المياه والموارد الغذائية، علاوة على تبدلات الأحوال المناخية، وأحياناً توافر الحيوانات المفترسة، مما يجعل الأْعمال القتالية الجبلية مميزة بصعوباتها ومشاقها، والتي تتزايد مع تزايد حجم القوات وتنوع وحداتها المقاتلة، وما هو مقترن بالطبيعة الخاصة للجبال، ولهذا لم يكن غريباً أن يتم في الجيوش الكبرى إعداد وحدات جبلية خاصة لقتال الجبال (كما في بلاد الشمال الأوروبي).
خامساً: ضرورة التحصين الهندسي للأرض، إذ تبدو أهمية هذا التحصين واضحة لدعم الطبيعة الحصينة للأرض، وللإفادة من ميزاتها حتى أبعد الحدود، فاستخدام الموانع الصناعية، وزرع بعض الألغام في مناطق يتم اختيارها بصورة جيدة، وإعدادها لتدمير بعض النقاط أو الحواجز التي تشكّل عند تدميرها سدوداً قوية، وكذلك إنشاء المقار الميدانية وتنظيم شبكات الخنادق وخنادق المواصلات وإقامة المستودعات في أعماق الجبال؛ كل ذلك مما يمكن اعتباره ضرورياً لزيادة قوة المواقع الحاكمة، وتسهيل التحرّكات والمناورات وضمان أمن القوات. ويبدو أن هذا التحصين الهندسي للأرض هو أكثر سهولة وأكبر فاعلية في الجبال منه في السهوب أو على السواحل أو في أية مناطق قتالية أخرى بما في ذلك التنظيم الدفاعي على تخوم الغابات وسواها نظراً لإمكانات التحكّم بمحاور العمليات.
سادساً: التنظيم الإداري والإمداد، فالقوات المقاتلة في الجبال قد تجد نفسها في أحيان كثيرة تحت دائرة الحصار، وفي حالة من العزلة، مما يرغمها على الصمود قدر المستطاع، وحتى أعلى درجات الصمود، مع الاستمرار في المقاومة العنيدة. وهي بالتالي تحتاج لمخزون كبير من الذخائر المتنوعة، والمواد التموينية، والمياه؛ لاسيما أن الإمداد جواً ليس مضموناً بصورة دائمة ولا ثابتة، كما أن تحرّك القوات البرية لإنقاذ القوات الواقعة تحت قبضة الحصار، قد تتأخر لبعض الوقت لأسباب كثيرة تفرضها الأعمال القتالية على امتداد مسارح العمليات.
ولابد هنا من تذكّر حقيقة أن القوات الجبلية هي قوات ذات تسليح خاص، وتجهيز يتناسب مع طبيعة الجبال. وإذن فعملية التنظيم الإداري والإمداد للقوات الجبلية هي عملية دقيقة، وذات أهمية كبيرة، إذ برهنت التجارب التاريخية منذ أقدم العصور أن الأعمال القتالية الجبلية كثيراً ما تحولت إلى كوارث ونكبات بسبب ضعف التنظيم الإداري أو حتى غيابه.
ويبقى هناك مجال رحب للبحث في مبادئ حرب الجبال وقواعدها تبعاً لخصائص الجبال ذاتها، ونقدم هنا من تجارب القلاع و التحصينات القديمة دروساً مهمة وذات قيمة ثابتة حتى في عصر ثورة التقانة، فتلك القلاع والتحصينات غالباً ما كانت تحتل مواقعها فوق قمم الجبال، أو عند ذراها الاستراتيجية، أو عند الممرات الإجبارية والمواقع الحاكمة، وكانت القلاع والحصون بمثابة مدن عسكرية مجهزة بكل المتطلبات الضرورية لدفاع طويل الأمد، ولمعركة ضاربة، وليس ذلك يؤكد حقيقة التكامل بين وسائل الدفاع الطبيعية في الجبال ووسائل التحصين الصناعية وحسب، وإنما يؤكد أيضاً حقيقة العلاقة بين قتال الجبال وقيمة العامل الجيواستراتيجي المتوافر في قتال المناطق الصعبة.
2. تجارب الحروب
تبقى التجارب التاريخية للحروب هي المدرسة الحقيقية لاستخلاص أسس فن الحرب ومبادئه وإمكانات تطويره، ولقد عرف تاريخ فن الحرب منذ أقدم العصور تجارب كثيرة لقتال الجبال، وقد يكون من المفيد التوقّف قليلاً عند بعض التجارب:
أولاً: لقد كانت جيوش العالم القديم تتجنب قدر المستطاع اقتحام الجبال، أو خوض المعارك في متاهاتها، ولهذا فإنها عادةً ما كانت تلتف من حولها، أو تتحرك على جنباتها، أو تستخدمها للعبور من دروبها، ولعل أمثولة القائد القرطاجي (هاني بعل 247 183 ق.م) هي أفضل أمثولة للإفادة من الممرات والدروب الجبلية للحركة ولتحقيق المباغتة الاستراتيجية، ففي سنة 217 ق.م قاد (هاني بعل) جيشه الكبير عبر دروب جبال البيرته (البرتات كما يسميها المؤرخون المسلمون والتي تفصل بين أسبانيا وفرنسا) ثم اخترق بعدها جبال الألب في أقسى مسيرة عسكرية عرفها التاريخ، لينحدر من شمال إيطاليا محققاً المباغتة المذهلة التي ضمنت له أروع الانتصارات في معارك تبان وتريبي وترازيمين ثم كاني، وبقيت هذه التجربة من أكبر التجارب التاريخية للتحركات العسكرية عبر الجبال.
ثانيا: جاءت تجارب الفتوحات الإسلامية لتبرز أهمية الجبال ودورها في سياسات الحروب، ففي الفترة (14 17ه = 635 638م) كانت جيوش العرب المسلمين قد أنجزت فتوحات بلاد الشام والعراق، ويومها أصدر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوامره بإيقاف الفتوح عند تخوم جبال زاغروس شرقاً مع الفرس، وشمالاً عند جبال الأمانوس مع الروم. وكان ذلك قراراً مذهلاً، إذ عدّ الجبال حاجزاً طبيعياً لا يجوز زج قوات العرب المسلمين في متاهاته، ولكن، عندما استمر الفرس في تحرّشهم وفي أعمالهم العدوانية، أصدر أمير المؤمنين عمر أوامره باستئناف الفتوح فكانت معركة (نهاوند فتح الفتوح 21ه = 642م) هي نقطة الانطلاق للتوغّل في بلاد فارس. ويمكن هنا ملاحظة نقطتين مهمتين، وهما:
1. الإفادة من الممرات والدروب للتقدم عبر بلاد فارس.
2. اختبار محاور العمليات التي تسير على أطراف الجبال والمرتفعات والعوائق الطبيعية، وإلى جانب ذلك، كان العرب المسلمون يحاولون الإفادة من الجبال ومنعتها وقوتها لحماية أجنحتهم ومؤخراتهم، مع تجنّب التوغّل في المناطق الجبلية.
وتعدّ قصة (سارية بن زينم) واستناد جيشه إلى (الجبل) من القصص التي تبرز السياسة العسكرية الإسلامية تجاه قتال الجبال، والتي أكدتها تجارب الحروب العربية الإسلامية مع الروم، والتي عرفت طوال العصر الأموي (سواء في الشام أو الأندلس بعد ذلك) باسم (حرب الثغور) أو (حرب ماوراء الدروب) والتي تحوّلت إلى غزوات منتظمة عرفت باسم (الصوائف والشواتي).
وفي فتوح المغرب العربي (شمال أفريقيا) تحركت جحافل الفتح العربي الإسلامي على المحاور الساحلية متجنبة بذلك الدخول في عمق المناطق الجبلية، إلى أن تم ارتياد مداخلها ومخارجها واستطلاع مجاهيلها مع الإفادة من الجبال لحماية أجنحة جيوش الفتح. وعندما انتقل العرب المسلمون لفتح الأندلس (92ه 710م) نظم طارق بن زياد أشهر (سد استراتيجي) في (وادي لكة) حيث تم الاستناد إلى الجبال لتنظيم ترتيب قتالي عميق يمكن له الصمود في وجه قوات (القوط) المتفوقة والتي كان يتولى قيادتها (رودريك أولذريق). وعندما نجح المسلمون في حسم المعركة جاء التحرك نحو الشمال عبر محاور متوازية بعيدة عن عوائق الجبال وصعوباتها.
ثالثاً: تجربة حرب البلقان في الحرب العالمية الثانية، حيث عدّت هذه التجربة من وجهة نظر أوروبا على الأقل من أغنى تجارب الحروب الجبلية بالدروس التطبيقية لمبادئ الحرب وقواعدها، وفي الواقع، فإن احتلال القوات الألمانية (النازية) لأقطار أوروبا الغربية، قد اقترن بتنظيم المقاومة من قبل الحلفاء (بريطانيا وأمريكا وروسيا) وكانت جبال فرنسا والبلاد المنخفضة مسرحاً للأعمال القتالية الجبلية التي كانت تعتمد على العمليات الصغرى (الكمائن والإغارات والأعمال التخريبية وتوجيه الضربات باستمرار لقوات الاحتلال). ولقد حفظ أدب الحرب الغربي مؤلفات كثيرة (وقائع ويوميات ومذكرات) تبرز أهمية الأعمال القتالية في الجبال ودورها في استنزاف قدرة الجيوش الألمانية (مادياً ومعنوياً).
غير أن حروب البلقان (بقيادة المارشال جوزيف بروز تيتو) قد تميزت عن بقية الأعمال القتالية الأوروبية بعدد من الخصائص، لعل من أهمها: استثمارها الرائع لطبيعة البلاد الجبلية، وتنظيم البلاد وربط بعضها ببعض بشبكة محكمة، والكفاءة العالية في اختيار الأهداف، وتنظيم الأعمال القتالية في حدود الزمن والمكان المناسبين، وهذا مما أرغم القيادة الألمانية على زج أفضل تشكيلاتها القتالية على مسرح البلقان، مما ساعد على تخفيف الضغط الألماني عن الجبهة الشرقية (السوفيتية) في أصعب مراحل الحرب وأشدها قسوة وعنفاً، وهذا مما ساعد قيادة الحلفاء أيضاً على تنظيم عملياتهم بداية من شمال أفريقيا، ونهاية بصقليا وإيطاليا.
رابعاً: وإذا كانت تجربة حرب البلقان قد عدّت نموذجاً للحرب ضد جيوش نظامية في مناطق جبلية، فإن هذه الحرب قد تطورت عبر الصراع المسلح عندما تحولت فصائل القوات البلقانية (اليوغوسلافية) إلى جيوش نظامية أيضاً، تمتلك الأسلحة الثقيلة وتخوض معاركها على جبهات واسعة؛ مما أبرز إمكانات خوض معارك الجبال في إطارحروب جيوش نظامية. وقد جاءت حروب ما بعد الحرب العالمية الثانية (والمصنفة في إطار الحروب الثورية) لتسير على هذا الاتجاه ذاته، بمعنى إطلاق شرارة الحرب بقوات مقاومة غير نظامية، ثم التحوّل إلى حرب بجيوش نظامية تكون الجبال هي المسرح الرئيس لأعمالها القتالية. ولقد كانت الحرب الفيتنامية (1954 1975م) والحرب الجزائرية (1954 1962م) نموذجاً لهذه الحروب المتطورة.
انطلقت شرارة حرب الجزائر (أو حرب التحرير الجزائرية) بقوات قليلة، غير أن هذه القوات استندت إلى قواعد الجبال الحصينة في منطقتي (الأوراس والقبائل) وكانت مغاور هذه الجبال وكهوفها وافتقارها لمحاور العمليات ووعورة أرضها وغاباتها وشدة منحدراتها هي الملجأ الأمين لقوات (الثورة)، حيث كانت هذه القوات تنطلق لعملياتها الصغرى (الكمائن والإغارات والأْعمال التخريبية) ثم تعود إلى ملاجئها المحصنة التي أمكن تطوير قدراتها الدفاعية عبر التحصين الهندسي للأرض. وأمكن لجحافل الغزو الفرنس خلال سنوات الصراع المرير أن تجتاح قواعد الثورة في المناطق الجبلية في مرات متتالية ومن خلال تقسيم مسارح العمليات إلى مناطق يتم تطهيرها على التتابع، غير أنه كان من المحال على القوات الفرنسية المتفوقة الإفادة من تفوقها لنشر القوات في كل أرجاء البلاد الجزائرية وبصورة دائمة، وكانت تلك نقطة قوة الجزائر بين الذين كانوا سرعان ما يعودون إلى قواعدهم الجبلية فور انسحاب القوات الفرنسية. ولقد خسر الجزائريون أكثر من مليون شهيد، غير أن خسارة القوات الفرنسية كانت كبيرة أيضاً، وعندما وصلت الحرب نهايتها كانت قوات الثورة الجزائرية قد تحولت إلى جيش نظامي، فيما كانت الجيوش الفرنسية مستنزفة مادياً ومعنوياً.
كانت حرب الهند الصينية (الفيتنامية) تسير على محور مواز لمحور الثورة الجزائرية، فقد انطلقت شرارة الثورة من جوف الجبال الوعرة المغطاة بالغابات في أقصى شمال البلاد (بقيادة هوشي منه وقائده الجنرال جياب)، ثم تطورت الحرب وكانت معركة (ديان بيان فو) نموذجاً للحروب الجبلية، فقد نظّم الفرنسيون دفاعهم القوي حول هذه القلعة التي كانت تمسك بمفاتيح الدلتا، ووضعوا فيها أفضل قواتهم؛ وشحنوها بكل متطلبات الدفاع من أسلحة وذخائر ومواد تموينية لتكون قاعدة للهجوم وليس للدفاع فقط. غير أن القوات الفيتنامية استطاعت حفر الخنادق للمواصلات وتنظيم شبكة محكمة من الطرق، وأمكن لهم فرض حصار محكم على هذه القاعدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1953م، وكانت الاشتباكات بالنيران (التناوش عن بعد) والأعمال القتالية الصغرى مستمرة حتى يوم 13 آيار (مايو) 1954م، حيث وصلت الأعمال القتالية نهايتها بسقوط (ديان بيان فو) في قبضة جيش التحرير الفيتنامي، واضطرت فرنسا لقبول الشروط الفيتنامية والانسحاب من هذه (المستعمرة)، وكان ذلك نقطة تحوّل جديدة في أفق الحروب الجبلية أيضاً، إذ وقفت الجيوش الأمريكية على أعباء الحرب في جبال فيتنام، لتضع نموذجاً جديداً من نماذج الحروب الجبلية، وهو نموذج (حرب التقانة في الجبال).