التفسير المقارن (16).. سورة الفيل
مختصر القصة أن الله تعالى أفشل محاولة أبرهة لهدم الكعبة. والعبرة أن الله تعالى يدافع عن حرماته، فمن باب أولى أنه يدافع عن أنبيائه وأوليائه وأحبائه.
أما كيف أفشل الله أبرهة وجيشه العظيم فليس هو المهم، فمهما كان الأسلوب فهو يدلّ على قدرة الله المطلقة، سواء ضلّ أبرهة الطريق أو أصيب بمرض فتاك أو أرسل الله عليه الأفاعي تلدغه وجيشه.
ومع يقيني أن الله قادر على إهلاكه بأي وسيلة، لكني أرى أنه كلما كان السلاح الذي استخدمه الله في هذا الإهلاك أضعف وأبسط كان ذلك أكثر دلالة على قدرته سبحانه وعلى عظمته.
تصوّر أن يحشد ملك جيشا عرمرما لمواجهة عدو، بينما يتمكن ملك آخر من الفتك بهذا العدو بسرية صغيرة رغم أنه يملك جيوشا عظيمة، فالملك الثاني أحكم وأذكى وأقدر.
ولكن، دعنا من هذه النقطة، فهي ليست هامة، كما أن المخلوقات كلها بالنسبة إلى الله تبقى مخلوقات ضعيفة، وكل جنود الله بالنسبة إلى الله هي أشياء بسيطة لا تفاوت بينها، والله يختار ما يريد.
أما الأهم فهو أنه يُنسب إلى الله تعالى أمور لا حكمة فيها، فحسب التصور التقليدي فإن الله يهيئ معجزة ساطعة لا يستطيع أن يجادل فيها أحد من أجل الحفاظ على الكعبة، بينما لا يفعل الشيء نفسه دفاعا عن سيد البشر r! فلماذا؟ لماذا يرسل الله أعدادا هائلة من الطيور لتلقي على كل جندي في الجيش "بِحَجره المكتوب عليه اسمه... يخرق البيضةَ والرجلَ والفيلَ ويصل إلى الأرض" (تفسير الجلالين)، بينما يكتفي الله تعالى بأن يُنسَج بيتُ عنكبوت على غار ثور لتضليل مَن كان يلاحق سيد الرسل. كان الأولى أن تأتي هذه الطيور الخارقة في مثل هذه اللحظة!
فالقول بالتفسير التقليدي الشائع ينسب إلى الله اللاحكمة والعشوائية.
في قريتي يوصف عصبيو المزاج بأنهم "لا يُحْزَرون".. أي لا تُعرف ردة فعلهم بالمرة، أي أنه يمكن أن يصدر عنهم أي شيء. وأرى أن القائلين بهذه التفاسير يصفون الله تعالى كما يوصف هؤلاء العصبيون.
عنكبوت بسيط مقابل آلاف الطيور العظيمة!! لماذا؟ ويمكن لأي جاهل أو نصف متعلم من قساة القلوب أن يقول عن بيت العنكبوت في غار ثور إنه مجرد صدفة أو قصة مُخْتَلَقَة، ولكن كيف لملحد أن يواجه قصة الطيور الهائلة في التفسير التقليدي لسورة الفيل؟ إذا أَخْرست المعجزةُ الألسنَ كلَّها فهي ليست معجزة، بل هي تحويل الغيب إلى حاضر، وهذا لا يريده الله.
ليست القضية قدرة الله، فهذا أمر لا خلاف فيه. القضية هي حكمة الله، هي سنة الله التي لن تجد لها تبديلا.
أيُّ طيورٍ هذه التي صارت عاقلة وصارت تلقي حجارة تفتك بجيش عن آخره؟ ثم أين ذهبت جثث هذا الجيش الرهيب؟ ألا تتسبب الجثث غير المدفونة بانتشار الأوبئة؟ هل انتشرت الكوليرا في مكة بعد قصة الطيور الهائلة؟ هل روى التاريخ شيئا من هذه القصص التي لا ينتبه واضعوها إلى ما يُبنى عليها من اعتراضات تنقضها؟
تقول الآيات: "ألم تر كيف دمّر ربُّك أبرهةَ وأصحابَه الذين أتوا بجيش من الفيلة مهاجمين مكة، فأصابهم من الدمار والذعر ما أصابهم، ففَرّوا تاركين وراءهم موتاهم في البرية، فاجتمعت حولها الطيور، وأكلت لحومهم تنهشها وتضربها على الصخور. علمًا أن من عادة النسور أنها تأخذ قطعة من لحم الجيفة إلى مكان عال مثل رأس شجرة أو صخرة وتنظفها من التراب وتنهشها بالضرب على الغصن أو الحجر". (التفسير الكبير)
اقرأوا الآيات بترتيبها جيدا؛ لقد تمّ الفشل والخيبة والدمار وصار كيدهم في تضليل قبل إرسال هذه الطيور. لم تُرسل هذه الطيور لقتلهم، بل لترمي جثثهم بحجارة من سجيل.. أي لتمزِّقها برَمْيها على الحجارة، فالباء هنا بمعنى على، كما تقول: رميته بالباب، أي على الباب.
هذه هي السورة كاملة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (2) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (3) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (4) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (5) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}
لقد هرست الطيور أجسادهم فصارت مثل "وَرَق زرْع أكَلَتْه الدواب وداسته وأفنته". أما لو كانت الطيور هي التي قتلتهم بحجارتها لما كان هنالك أي مبرر لهذا الهرس، بل يكفي القتل المجرد، أما الطيور التي جاءت فقد جاءت لتأكل جيفهم لا لتقتلهم برمي حجارة عليهم.
الرمزية:
بعض الكلمات يُكَنّى بها عن شيء أو حدث، أو يرمز بها لذلك، فالطيور في هذا السياق رمز لكثرة الموت الحاصل في الجيش؛ "هناك بيت شعر للنابغة الذبياني في هذا المعنى حيث قال:
إذا ما غدا بالجيش حلَّق فوقَـهُ عصائبُ طيرٍ تهتدي بالعصـائبِ
أي أن الممدوح إذا خرج بجيشه حلّقت الطيور فوقهم، لأنها تعرف أن هذا لا بد أن يفتك بأعدائه، مما سيهيئ لها طعامًا شهيًّا.
وورد في التاريخ عن تيمور لنك أنه حيثما توجه بجنوده حلّقت النسور فوقه، لأنه حيثما قاتل تغلب على الأعداء، وكانت الطيور قد أدركت بما أوتيتْ من وجدان فِطري أن طعامها مضمون ما دامت في رفقة هذا الجيش". (التفسير الكبير)
كيف حدث موت الجنود وهرب مَن تبقى منهم:
يوضح ذلك ابن إسحاق، حيث قال: "وحدثني يعقوب بن عُتْبَة: أنه حُدِّث أن أول ما رؤيت الحَصبة والجُدري بأرض العرب ذلك العام" (ابن كثير). أي أنّ الله تعالى هيّأ مرض الحَصبة والجُدري للقضاء على هذا الجيش. ورغم وجود هذه الرواية الواضحة إلا أن ابن كثير وبقية المفسرين لهم رأي آخر، فقالوا إن الطيور هي التي قتلت الجيش، "وكانت طيرًا خضرا خرجت من البحر، لها رءوس كرءوس السباع". (ابن كثير). وقيل: "لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل، بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر، أمثال الخطاطيف. كل طير منها تحمل ثلاثة أحجار مجزعة: حجرين في رجليه وحجرا في منقاره. قال: فجاءت حتى صفت على رءوسهم، ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره، ولا يقع على شيء من جسده إلا وخرج من الجانب الآخر". (ابن كثير)
والقصص في هذا كثيرة وملخصها أنها طيور ليس لها مثيل في كرتنا الأرضية، بل هي طيور سماوية، طيور عاقلة، وكأن الله تعالى لم يقدر على أن يهلك هذا الجيش بما عنده في هذه الأرض فلجأ إلى مخلوقات السماء! إن بعض مَن يحاول أن يُظهر قدرة الله إنما ينسب له الضعف وهو لا يشعر. والأهم أنه ينسب له اللاحكمة والعشوائية.
هاني طاهر 2010
www.alsabiil.110mb.com