التفسير المقارن (13).. ناقة صالح
!
يرى التفسير التقليدي أن ثمود قالوا لصالح: "ائتنا بآية إن كنت من الصادقين! قال: فقال لهم صالح: اخرُجوا إلى هَضْبَةٍ من الأرض! فخرجوا، فإذا هي تَتَمَخَّض كما تتمخَّض الحامل، ثم إنها انفرجت فخرجت من وسَطها الناقة" (الطبري). وقيل "كانوا سألوه أن يُخرجها لهم من صخرة عيّنوها" (الجلالين).
هذا بعض ما ورد من قصص عن ماهيتها، أما أعمالها فحدِّث ولا حرج، وكل هذه القصص لا أساس لها في النص القرآني.
إن قصة الأنبياء واحدة؛ يبعث الله نبيّه إلى قومه، وتكون أدلة صدقه كثيرة، لكنهم لا يرونها أدلة، فيطالبون بمعجزة، فلا تأتيهم حسب مقاسهم، لأنهم مِن قساوة قلوبهم طلبوها.
ورد الحديث عن ناقة صالح u في عدد من السور، وذلك بعد ذِكر قصة قوم نوح وقوم هود، ولم يرِد أن نوحًا ولا هودًا قدّما أي آية غريبة عجيبة مثل غرابة الناقة الخرافية حسب التفسير التقليدي، فلماذا ينفرد صالح u بمثل هذه الآية؟
إذن، إما أن نقول إنها ناقة عادية، أو أن نقول إن سيَر الأنبياء ليست واحدة، لذا ليس ]فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ[!!
ولنأخذ آيات سورة الأعراف مثلا ] لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ..... وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ...... وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ..... فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ....... وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ...... وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ .... تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ[.
ولكن السؤال: كيف كانت الناقةُ آية؟ وما معنى آية؟
لا شك أن من معاني الآية هو الدليل، ولكن من معانيها العلامة، وهنا معناها العلامة على العذاب، فإنْ قَتَلوا الناقة أو منعوها من المسير فسيتعرضون للعذاب. أو أن قتل هذه الناقة سيؤدي إلى هلاك هذا القوم، وسيكون هذا دليلا على صدق صالح u الذي تنبأ بهذا مسبقا.
الحق أن صالحًا u لما سئل عن بيّناته، وحين زَعَم قومه أنه لم يقدم لهم معجزة على صدقه لم يقل لهم: انتظروا يوما أو أسبوعا وستأتيكم الناقة المعجزة، بل قال إنه قد جاءهم ببيّنة، فالبينة قد جاءت، وهي غير الناقة، ولكن هذه الناقة ستكون آية، أي ستكون علامة على القضاء عليكم إن مسستموها بسوء، وبعد أن يتحقق هلاككم بنتيجة قتلها سيكون ذلك دليلا من أدلة صدقي.
تعالوا نقرأ الآيات بدقة لنلحظ الفرق بين البيّنَة وبين آية الهلاك:
في سورة هود {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ * وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ}
إذن، صالح على بينة من ربه، ولديه من الأدلة القاطعة بما يدل بوضوح على صدقه. ثم يقول: ]وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً[.. فالآية هذه هي علامة على العذاب الذي سيأخذهم إن لم يتركوها تتحرك بصالح حيثما شاء.
في سورة الأعراف: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
إذن، البينة قد جاءتهم. وهذه الناقة ستكون علامة على العذاب. وعبارة (هذه ناقة الله) ليست "بَدَلا" مِن "بيّنة من ربكم"، بل هي جملة استئنافية جديدة. والدليل الآيات السابقة من سورة هود.
في سورة الإسراء:
{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا * وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}
يعني أنّ كل الأقوام الذين كذبوا الرسل وعارضوهم لا بد أن يُستأصلوا أو يُهزموا. ولم يمتنع الله تعالى عن الإتيان بمثل هذه الآيات بحجة أن كذب بها الأولون، بل إنه مستمر في إرسالها. وقد أعطى الله ثمود الناقة علامة على إهلاكهم. ومثل هذه العلامات لا تُرسل إلا تخويفا.
سورة الشعراء:
{مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
واضح أنه هنا يحذرهم من المسّ بها بسوء، ولم يقل لهم إنها بيّنة، ورغم أنه يجيب على سؤالهم إتيان آية، لكن جوابه فيه إيجاز حذف، حيث قد بيَّنت آياتُ سورة الأعراف وهود أنه تحدَّث عن بينة جاءتهم مسبقا. ثم إن هلاكهم سيكون دليلا إضافيا من أدلة صدقه عليه السلام.
سورة القمر:
{إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ}
أما هذه الآية فتحسم الموضوع، وتبيّن أن الناقة لم تكن إلا اختبارا لهم وابتلاء وعلامة على هلاكهم، وليست بيِّنة بحد ذاتها. بل هلاكهم نتيجة قتلها هو دليل، ولكنه لن ينفع الكافرين الذين قُضي عليهم، بل ينفع المؤمنين.
وأخيرا سورة الشمس: { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}.
الآن، لماذا جعل الله الناقة علامة على هلاك القوم؟
الجواب: لا بدّ أن يكون صالح u يستعملها لجولاته التبليغية الدعوية، والظاهر أن قومه كانوا يلومونه كثيرا على التبليغ، ويضعون العراقيل في طريقه، فبيّن لهم أن عليهم أن يصدقوه لأن الله آتاه العديد من البيِّنات، وفي الوقت نفسه حذّرهم من تعويق حركته ومنْعِه من الدعوة، وقال لهم: إن قتلتم الناقة فسيأتيكم الهلاك، لأن قتلها يعني أنكم قد اتخذتم قرارا نهائيا بإعلان الحرب على رسالة الله. وهذا ما حدث بعد ذلك.
مواصفات الناقة في التفسير التقليدي:
هذه الناقة عدوانية وظالمة حسب التفكير عاشق الخيال، يقول القرطبي: "كانت ، فيما بلغني والله أعلم، إذا وردت، وكانت تَرِد غِبًّا، وضعت رأسها في بئر في الحجر... فما ترْفَعه حتى تشرب كل قطرة ماء في الوادي"...... الخ والقصة طويلة جدا. (الطبري).
إذا كان ذلك صحيحا، فأعان الله ثمود وصبَّرهم على هذا الأذى! هل يُعقل أن تستولي ناقة واحدة على عين الماء يوما مقابل يوم لكل القرية؟ وأي ظالم هذا الذي يغتصب حقوق الناس جميعا إلى هذا الحدّ؟
لقد جاء هذا الفهم من خلال خطئهم في فهم هذه الآية: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } (الشعراء)، مع أن معناها على العكس مما ذهبوا إليه، فهو يقول لهم: لا تعتدوا عليها، فهي لا تنافسكم حتى في الماء، حيث إنها لا تقرب الماء حين تردونه، بل لا ترد الماء إلا إذا لم تكونوا هناك ولا ماشيتكم، أي أنها لن تسبب أي مشكلة، ولا حتى مجرد مزاحمة. وهناك آية أخرى تؤكد هذا المعنى، وهي: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا } (الأَعراف وهود)، فهذه الآية تقول لهم: إن هذه الناقة لا تأكل إلا من الأراضي المشاع، ولا تعتدي على أملاككم الخاصة، فذروها تأكل ولا تقتلوها. يعني أنه u يرجوهم أن لا يمسوها بسوء بحال، لأنه ليس هنالك أي مبرر لقتلها. وقتلُها لا يعني إلا محاولة قتل الدعوة، وذلك بقتل وسيلة المواصلات الوحيدة للنبي.
وتقول بعض الروايات إن هذه الناقة كانت تدرّ عليهم كل ما يحتاجون من حليب وألبان وأجبان. فإن صحّت هذه الخرافة فنِعْمَت هذه الناقة، وهي ليست معجزة بقدر ما هي نعمة عظيمة، وإذا كانت كذلك فسيعبدونها بدل أن يقتلوها.. ولو اعترض لها أحد لَقَتَلَهُ الكفار وهم متَّحدون. فالحقّ أنها ناقة عادية كان يستخدمها صالح u في جولاته التبليغية، وهم يريدون منعه من الدعوة والتبليغ، وهذه جريمتهم.
هاني طاهر -