الكذب
منذ نعومة أظافري وأنا أسمع أن الكذب يجوز في ثلاث حالات؛ وهي الكذب على الزوجة وللإصلاح ذات البين، وعلى العدو.
وقد أصبح هذا الحكم من المعلوم بالضرورة، فلا يجهله أحد.
وحين نقول إن هذا محض خطأ، وأن الكذب حرام كله، ينبري لنا الناس ليسألونا: إذن، أنت تريد أن نخبر اليهود بمن قام بأي عملية عسكرية. أي أنك تريد منا أن نكون جواسيس عندهم.
أقول لهؤلاء: إن الكذب على المحقق ا ليهودي عارٌ آخر. على الواحد فينا أن يقول للمحقق إن سئل عن شخص آخر: أنا لا أعمل عندك حتى أجيبك. وليس لك أن تسألني عن شخص آخر البتة. نعم، عليه أن يكون شجاعا وأن يبين للمحقق أنه معتدٍ وأن يحاول إقناعه بعدالة قضيته، لا أن يحترف الكذب. وهذا، نضال بحد ذاته، وهو أفضل من النضال العسكري.
مهما يكن، فالحديث الذي يستدلون به على جواز الكذب ليس فيه ما يذهبون إليه: فقد روى مسلم في صحيحه عن يُونُس عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أن حُمَيْد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ
إِلَّا فِي ثَلَاثٍ الْحَرْبُ وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا. (مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، بَاب تَحْرِيمِ الْكَذِبِ وَبَيَانِ الْمُبَاحِ مِنْهُ)
فالحالات هذه من كلام ابن شهاب، وليست من حديث رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث إن الحديث ينتهي عند التذكير أن من يُصلح بين الناس، فيذكر الكلام الجيد، ويتغاضى عن الكلام السيئ ليس كذابًا، ثم أضاف ابن شهاب أنه سمع ترخيصا بالكذب في حالات ثلاثة، ولم ينسب ذلك إلى الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد أخرج البخاري هذا الحديث من دون زيادة ابن شهاب، فَذَكَر: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا (البخاري، كتاب الصلح، باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس).
لكن مسلما روى الحديث من طريق آخر عن ابن شهاب ناسبًا الكلام إلى الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس لابن شهاب. ولكن هذا الطريق عن ابن شهاب هو الأضعف، وأن طريق يونس الذي ذكرناه هو الأقوى كما قال ابن حجر في الفتح.
وهنالك حديث قد نسب هذه الحالات للرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أخرجه الترمذي عن أسماء بنت يزيد: (لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ) (الترمذي، البر والصلة، باب ما جاء في إصلاح ذات البين). ولكن هذا الحديث لا يصحّ، لأن البخاري ومسلمًا يضعفانه أولا، حيث إنهما لو قالا بصحته لروياه في الباب الخاص بموضوعه. ثم إن من رواته شهر بن حوشب الذي تركه شعبة بن الحجاج ومالك بن أنس والبخاري ومسلم. لذا فالحديث ضعيف.
إن الكذب حرام كله. وإنه أساس الشرور كلها. فلنتجنبه كما نتجنب عبادة الأوثان الحجرية والبشرية. (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور). (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).