متى تُستنكر الجريمة؟
كان خالد بن الوليد قد قتل أسيرا في إحدى الغزوات، فلما أُخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيه إلى السماء وَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ" وكررها مَرَّتَيْنِ أو ثلاثا. ثم دفع صلى الله عليه وسلم الدية وأرسلها للمشركين.
ومع أن المشركين ظلوا يقتلون العزّل من المسلمين فلم يستنكر النبي r فِعلتَهم ولم يرفع يديه إلى السماء داعيا ببراءته من فعلهم؛ ذلك أنّ الجريمة متوقَّعة من المشركين، وهم الذين يحملون وِزْرها، فليس عليك سوى أن تذكِّر الناس بها لتحمسهم على قتال المشركين في معركة، أو لتُشعرهم بسمو أخلاق الإسلام مقارنة معهم. أما الجريمة التي يرتكبها أحدُنا فعلينا أن نُظهر استنكارنا وبراءتنا منها فورا، وأن نقوم بما يترتب عليها من واجبات.
هل يجب أن تُستنكر أيّ جريمة في كل حين؟ هل عليك أن تَستنكر ما تقوم به المافيا في الأكوادور مثلا؟ كلا، لأنهم مافيا قَتَلة، ولسنا نشك في أنك تؤيدهم، كما أنه لا ينبني على استنكارك فعل تقوم به. أما إذا كان هناك شك في رضاك عن جريمة، فعليك أن تزيل هذا الشك ببيان واضح.
أقْدمتْ إسرائيل على اقتحام سفن جاءت إلى غزة فقتلت عددا من الناس، وقد استنكر الناس القرصنة الإسرائيلية.
استنكارُهم هذا يعني أن إسرائيل دولة محترمة وذات أخلاق، ولكنها في هذه الحالة قد خالفت هذه الأخلاق السامية!! إنه يعني أن إسرائيل لم تُقدم على جريمة بهذا المستوى من قبل فوجب تذكيرها بهذه الجريمة حتى تعود إلى سابق عهدها من الأخلاق! إنه يعني أن إسرائيل لم تهجِّر مئات القرى الفلسطينية الآمنة المطمئنة! ولم تقتل منهم أعدادا كبيرة قبل تهجيرهم! إنه يعني أن إسرائيل اعتادت على استقبال السفن الداعمة لغزة، ولكنها تغيّرت في هذه المرة!
أما أنا فلا أستنكر ما فعلت إسرائيل، لأنه في سياقه العام، ولأنني لن أشهد لإسرائيل بحسن سلوكها السابق من خلال استنكاري هذا، بل أستنكر ما قامت به تركيا التي بعثت مئات الناس الذين لا حول لهم ولا قوة ليواجهوا جيش العدو. هذا الإذلال هو الذي نستنكره ونرفضه ونوصي بعدم تكراره. نريد الكرامة للناس، ولا أودّ أن أرى والدي أو والدتي في السفينة التركية يتعرضان للإهانة والاعتقال ولا أقدر على أن أحرِّك ساكنا؛ فهذا إذلال لي أولا، ثم للأمة كلها.
تصوّر أنك على خلاف مع أحد المجرمين، فمنَعَك من زيارة حقلِك، فأرسلت زوجتك وأطفالك للحقل، متوقعا أن كرامة هذا المجرم ستمنعه من منع الزوجة والأطفال، أفلا يكون عملك هذا موغلا في الذلة والمهانة واللاغيرة وانعدام الكرامة؟ هذا هو حال الإمبراطورية التركية التي بعثت عُزَّلا وعجائز لعل إسرائيل تسمح لهم بدخول غزة، ولكن وقاحة إسرائيل أسوأ مما توقع هؤلاء.
لن أدين الجريمة الإسرائيلية، لأنها متوقعة وفي سياقها، ولأنني لست حليفا لها حتى أقوم بما يجب القيام به تعويضا للضحايا. بل الواجب على حلفاء إسرائيل وداعميها أن يدينوها.
ولن أدين اعتداء مشايخ الارهاب الوهابى لأن اعتداءهم متوقع وفي سياقه، ولأنه لا يُبنى أي عمل على استنكاري. بل الواجب على علمائهم أن يستنكروا هذه الجريمة، ليثبتوا أن هذا الفعل ليس منهم في شيء، وليجيبوا الناس على الأفكار التي يستند إليها قتلة مدرسة شرشال وليشرحوا للعالم فكرة قتل المرتد التي هي الباعث على هذا القتل. أو ليكونوا شجعان ويخرجوا على الفضائيات ويباركوا جهاد هؤلاء القتلة الذين جاهدوا وضحّوا بأنفسهم لقتل أكبر عدد من الجزائرين الذين فيى نضرهم يجب قتلهم عن بكرة أبيهم!!
لن أستنكر جريمة شرشال، لكني أستنكر بشدة سكوت علمائهم وعدم استنكارهم إياها. أستنكر عدم صدور أي بيان من أي كلية شريعة في العالم العربي. وأستنكر سكوت الجامعات عن سكوت كليات الشريعة فيها عن التعليق على هذا القتل. هذه الكليات التي تناقش تحريك الأصابع في التشهد دَهْرًا، ولا تناقش قتل عشرات المصلين صلاة المغرب. أستنكر سكوت الطلاب عن توجيه أسئلة إلى أساتذتهم حول هذه الجريمة. أستنكر سكوت الاحزاب السياسيين الذين لا يضعون أي خطة استراتيجية لأمّتهم، فلو أرادوا الخير لأخذوا العِبَرَ من جرائم الارهاب ووضعوا الخطط قبل أن تقع الفأس في الرأس.
على علمائهم أن يستنكروا جريمة شرشال وغيرها، وعلى أساتذة كليات الشريعة أن يخصصوا يوما لتبيين ما يجب تبيينه ويردوا على كل الأسئلة المتعلقة بالباعث على هذا القتل. وآن للناس جميعا أن يعلموا أن علمائهم المؤمنين بهذه الأفكار إذا دخلوا قرية أفسدوها