بسم الله الرحمن الرحيم لقاءمع مجاهد بعد ثمان واربعين سنة من الاستقلال قال تعالى :
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تبديلا ) صدق الله العظيم
توجت ثورة أول نوفمبر 1954 م . التي دامت سبع سنوات ونصف من الكفاح المرير بالانتصار على القوات الفرنسية وجيوش الحلف الأطلسي، بعد أن قدَّم الشعب الجزائري البطل ، مليون ونصف مليون من الشهداء على مذابح الحرية بسخاء ، لم يعرف له التاريخ مثيلا من قبل ، ولقد أعطى للإنسانية أمثولات خالدة في الإباء والصبر والشجاعة والاستمرار في الكفاح ، أمثولات يقف أمامها وطويلا مئات الملايين من بني البشر ، إحتراما وتقديرا لعظمة هذا الشعب ، الذي منحها ومجانا ، نماذج رائعة من نماذج التفوق على الألم والخوف والقسوة .
...وأعلن توقيف القتال بين السلطة الاستعمارية الفرنسية وجيش وجبهة التحرير الوطني في يوم 19 مارس 1962 م ، ووضعت الحرب أوزارها ، وسكت دوي القنابل ، وصوت الرصاص في كل أنحاء التراب الجزائري ، وسط انبهار العالم بأسره ، الذي كان يتتبع سير الفصول الأخيرة من الملحمة الجزائرية ، وقد زاد إعجاب العالم بالثورة الجزائرية، بعد التحكم الدقيق في وقف كافـة العمليات الحربية والفدائية بشكل مذهل .
وعاشت الجزائر في هذا اليوم ، موجـة عارمـة من الفرح و الابتهاج ، فلقد أطلق سراح الأسرى وتحرر المساجين من زنزانات الإستعمار ،التي أصبحت خاوية في فجر يوم 19 مارس 1962 ومجاهدنا من ضمن الأسرى المجاهدين الذين أطلق سراحهم ومسحت إشراقة شمس هذا اليوم ، ظلام ليل طويل حالك ، حاول الإستعمار تأبيده ، وتحقق النصر المبين للشعب الجزائري والحمد لله .
-
لقاء مع المجاهد محمد بن علي حسوني
من مواليد 1924 م بـ " لولاش " بجبل أحمر خدو بالأوراس الجنوبي ، اللقاء كان ذات يوم من أيام ديسمبر البارد عام 2010 م مع عبد الرزاق تاجموت في بيت إبنه العربي ، وقد فتح لي مخزون ذاكرة الثورة التحريرية ، ولأني كنت مشاهدا له في مشونش في يوم مشهود .
إلتحق بالثورة التحريرية في مطلع عام 1955 م مع المجاهد حسوني رمضان ومجموعة من المجاهدين ، خاض معارك بجبال الأوراس بالولاية الأولى ، يذكرها بأدق تفاصيلها ، منها معركة برقوق بجبل أحمر خدو في 28 أوت 1958 م .التي قادها العقيد سي الحواس ، وشارك فيها الضباط : حسوني رمضان ، المسعود أونيسي و محمد بن بولعيد وكتيبة يزيد عددها على مائتي (200) مجاهد ، وكان أكثر المعارك شراسة التي خاضها في الصحراء بالولاية السادسة بناحية بوسعادة بجبل بوكحيل ، منها بــ " عين العلق " و " فج الريح " و " عين الريش " و " عين الصفراء " ضد جيش العميل بلونيس ، ويذكر المجاهد تفاصيل معارك جرت بجبل الكرمة سنة 1960 م . استشهد في إحداها 12 مجاهدا منهم الضابط الأول العسكري رمضان حسوني ، ويقف عند معركة جريبيع ، التي قادها العقيد محمد شعباني ، وقد قال عنها ، إنها معركة تقرير المصير بحق ( تفاصيل المعركة في كتابي " العقيد محمد شعباني وجوانب من الثورة التحريرية الكبرى ) صفحـة 154-161 .
... وبعد معركة ضارية بجهات أولاد فضالة بالولاية الأولى يوم 15 نوفمبر 1961 م . ألقي القبض عليه مصابا وسلاحه بيده من نوع خماسي ألمان ... أثناء التحقيق من قبل الأجهزة الاستعمارية ، عرفوا أنه مجاهد قادم من الولاية السادسة ، سجن في فيرمة لحمر قرب باتنة ، ثم في سجن تازولت ... ومرت أيام تعرض فيها لشتى أنواع القهر وأساليب التعذيب إلى أن كان يوم توقيف القتال في 19 مارس 1962م .
قال محدثي المجاهد محمد بن علي حسوني بعد توقيف النار ، شعر المساجين بنوع من الهدوء ، وكانت السيارات تقف أمام بوابة سجن تازولت من مختلف أنحاء الجزائر ، تنتظر خروج المساجين ، وقد تم تخصيصها من قبل جيش وجبهة التحرير الوطني تحت مسؤولية اللجان الشعبية ، التي تتولى مهمة إستقبال المساجين ، وإيصالهم الى أهاليهم في أي جهة من الجزائر .
خرجت من السجن وكان في استقبالي مواطن ، قال لي إلى أين تتجه ؟ قلت له إلى المسجد العتيق ، ولما رأى حالتي الصحية حرجة جدا ، قال لي : سآخذك الى بيتي معززا مكرما ، وهنا أضفى المجاهد على حديثه نبرات صوت مؤثرة ، وهو يروي ما شعر به في أول ليلة في بيت آمن بين أفراد عائلة المواطن عبد العزيز فاضلي بحي المحطة ( La gare ) بباتنة ، حيث لأول مرة منذ سنين ، يدخل بيتا فيه أولاد و أصوات أطفال ، ويشعر بطمأنينة وكأنــه في عالم حالم ، قد تحقق له والحمد لله .
في اليوم الموالي ، قال محدثي : أخذني المواطن الفاضل إلى موقف السيارات قرب المسجد العتيق ، حيث أحضر لي سيارة وأوصى بي السائق على أن يوصلني إلى مدينة بسكرة إلى مكتب اللجنة الشعبية المكلفة باستقبال المجاهدين الجرحى .
في مدينة بسكرة كنت في مكتب اللجنة الشعبية التي يتولاها إبن الشهيد العرافي بركات برحبة الحشيش ، وقد استقبلوني أيما إستقبال ، وبعد أخذ قسط من الراحة ، أحضروا لي سيارة خاصة مع مسعف ، وتوجهنا الى مشونش في وسط الجماهير المبتهجة بنشوة الاستقلال ، وهي تموج في الحافلات وكل أنواع المركبات والعربات التي كانت مزينة بالعلم الوطني ، تتحرك متثاقلة مع هتافات آلاف الحناجر المرددة : الله أكبر ، تحيا الجزائر ، ممزوجـة بالزغاريد الحارة ، التي تنبعث من الشرفات وكل الدور و الممرات .
كنت محمد العيد مطمر مشاهدا يومها ، يوم وصول المجاهد محمد بن علي حسوني إلى مشونش يوم دخول أول مجاهد إلى مشونش جهارا بعد الاستقلال ، إنه يوم مشهود ، إذ خرج المواطنون شبابا وشيبا صغارا وكبارا لإستقبال المجاهد ، و كانت الجموع الغفيرة تتقاطر من كل جهة ، متدفقة في أمواج بشرية إلى حي القرارة لرؤية المجاهد ، رمز الاستقلال والحرية ، وهو محمول على الأكف ليجلس أمام البيت ، مهنئا الجميع بالنصر المؤزر والحمد لله .
رحم الله الشهداء ونرفع أكف الضراعة إلى الله بأخلص الدعاء ، كلما أشرقت الشمس وغربت ويكفيهم هذا الشرف فخرا ، عما نالوه من رب العزة الذي قال فيهم : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) صدق الله العظيم
إنكم أحياء عند ربكم ترزقون أيها الشهداء ، وأحياء في قلب الشعب الجزائري ، إن أسماءكم هي عنوان لعظمة الجزائر ، ومشاعل تنير الدرب أمام الشعب الجزائري في طريق البناء و التشييد ، كانت حياة الشهداء ملحمة تاريخية بطولية ، خطت باللهب والنار وسطرت على جبال وسهول وهضاب وروابي وبقاع و رمال الصحراء ، قصة خالدة تروي حياة أبطالنا الشجعان للأجيال في ربوع وطننا الحبيب المفدى الجزائـــر .
رحم الله شهداء الوطن على مر الزمن