أنشأ أحمد بن طولون لنفسه وذريته دولة في مصر هي الدولة الطولونية (254ـ 292هـ)، وواجه مكائد الدولة العباسية وأعوانها داخل مصر وخارجها، واستقامت له الأمور في مصر بوسائل كثيرة أهمها "أصحاب الأخبار" أو جواسيسه السريون الذين أحكم بهم قبضته على مقاليد الأمور. ومن العجيب أن أحمد بن كان مهتما بإقرار العدل ومعروفا بالبر والإصلاح، ولكنه كان حريصا على ألا يدع لأحد الفرصة في أن يمس سلطانه، خصوصاً وهو يواجه المكائد العباسية، ومن هنا كانت حاجته للبوليس السري، وكان أيضاً احتقاره &aacutute;لقائمين على هذا الجهاز والعاملين فيه.
عدل ابن طولون
والذين كتبوا تاريخ ابن طولون بعد موته وانتهاء دولته أظهروا ورعه وأشاروا بعدله، ولقد غضب على صديقه معمر الجوهري حين اشتكته امرأة عجوز ظلمها وكيل معمر الجوهري ، ولم يرض ابن طولون عنه إلا بعد أن أنصفها وزاد في إكرامها.
وكان من مهام البوليس السري لابن طولون ، كتابة التقارير عن كبار الموظفين وصغارهم في الإدارات ، وكانت صرخة المظلوم تصل إلى آذانهم المرهفة، وكان مع ذلك صاحب طبيعة متشككة إذ لا يقبل تقاريرهم إلا بعد تمحيص، ولاسيما أنه صاحب رأي سيء في الجاسوسية والجواسيس.
التجسس على كبار الدولة
ولقد عانى القادة وكبار الدولة من وجود ذلك النظام السري الذي يحصي عليهم أنفاسهم.. سواء كانوا في داخل القصر الرسمي أو في بيوتهم أو حتى في مهام سرية لصالح الدولة..أرسل ابن طولون وفداً إلى الخلافة العباسية ليشكر سيرته لدى الخليفة المعتمد، وأنفذ مع الوفد جواسيس من لدنه من حيث لا يعلمون بهم، يحصون ما يكون من كل واحد منهم، وأدى الوفد المهمة ونجح فيها وجاءت التقارير عنهم إلى ابن طولون مرضية فأكرم رجال الوفد.
على أن ابن طولون لم يكن يتسامح أبداً إذا تأكد من عيونه أن بعضهم يمالئ عليه أو يقول فيه ما يكره، وهنا ينقلب ذلك الرجل الورع الناعم إلى جبار عنيد، فقد جاءه "أصحاب الأخبار" بأن أحمد ألمدائني صاحب موسى بن بغا يبسط لسانه في ابن طولون في مجالسه الخاصة، فاعتقله وعرضه على العذاب فقتله وصادر أمواله، وكان موسى بن بغا خصماً لابن طولون في بغداد..وكان ابن شعرة من أصحاب ابن المدبر خصم ابن طولون. وكان يتندر على ابن طولون في مجلس ابن المدبر،وتجيء أخباره إلى ابن طولون فيحذره، ولم يرتدع ابن شعرة، بل سخر من ابن طولون وقلده في هيئته وفي طريقة كلامه حين حذره، وضحك ابن المدبر مما يحكيه له ابن شعرة، ومع أنها في مجلس خاص، إلا أن الأخبار وصلت إلى ابن طولون، فاعتقل ابن شعرة وضربه خمسمائة سوط وهدم داره وأمر بأن يطاف به في البلد على جمل، وهي طريقة "التجريس" وكانت إحدى العقوبات في القرون الوسطى.
وابن المدبر نفسه كان صاحب الخراج في مصر قبل ولاية ابن طولون عليها، ونجح ابن طولون في عزله عن الخراج، ولكن استمر ابن المدبر في الشام، واستمر يكيد لابن طولون ويكتب إلى بغداد يحذرها من أطماع ابن طولون، وكان ابن طولون قد استمال إليه مخلد صديق ابن المدبر، وجعله عيناً على ابن المدبر، فكان يكتب لابن طولون بكل تحركات ابن المدبر ضده، وأرسل بغداد يقول فيه: " إن ابن طولون قد عزم على أن يقيم بمصر خليفة، أي يستقل تماماً عن الخلافة العباسية، ويرمى ابن طولون بكل قبيح"، فأسرع ابن طولون وأرسل قائده سعد الفرغاني فاعتقل ابن المدبر وجيء به إلى مصر، فحبسه ابن طولون في حجرة مفروشة وأكرمه، فظن ابن المدبر أنه لا يعلم بمكائده ضده فاستطال في كلامه مع ابن طولون فأطلعه ابن طولون على معرفته بكل شيء عنه ، وأهانه ، وظل حبسه حتى مات كفيفاً.
وتتبعت عيون ابن طولون كل أصحاب ابن المدبر السابقين ليعرف ابن طولون هل بقوا على ولائهم لابن المدبر أم أصبحوا مخلصين له، فوجدوا رسالة لابن المدبر بعثها له ابن شعيب يعترف له فيها بكراهيته للعمل مع ابن طولون، وكان ابن شعيب يتولى الخراج لابن طولون، فعزله ابن طولون وسجنه في المطبق إلى أن مات فيه.
وكان ابن طولون يشتد في العقاب في أوقات الطوارئ بالذات، وكذلك فعل مع أتباع ابن المدبر أثناء صراعه مع ابن المدبر، وحين اشتد المرض على ابن طولون وخاف من تنـّمر الموفـّق العباسي به اشتد في تتبع المعارضة ضده حتى لا ينقلبوا عليه في ذلك الوقت العصيب، وقد جاء أصحاب الأخبار له بوشاية ضد هرثمة القائد يتهمونه بأنه قال: " توهمنا أنا نخدم إمارة ، ولم ندر أنها خلافة، إلا أنها خلافة ، وسخة مخوفة العاقبة " فاعتقله ابن طولون وصادر أمواله.
وشملت عقوباته نفراً من أنصاره لم يوافقوه على عزل الموفق، مثل القاضي بكار بن قتيبة، واعتقل آخرين لأسباب أخرى مبعثها الوشايات، مثل زياد المعدني وابن رجاء...
وأسرف في إيذاء الناس بالتهم وهو في مرضه الأخير فأضاع ما اشتهر به من العدل والإنصاف، وضاعت معه أسطورة المستبد العادل، لأنه لا يجتمع الاستبداد مع العدل أبداً ..!!.