الطريق إلى إيلات".. فيلم جزائري مع وقف التنفيذ قصّة أول رجال ضفادع في الوطن العربي

هكذا سرق المصريون سبق البطولة من الجزائر "سينمائيا"

كلّما تعثر نظري بمشاهد من الفيلم المصري "الطريق إلى إيلات"، أثناء إعادة بثّه عبر الفضائيات العربية ومنها الجزائرية، كلمّا وجدت نفسي قابعا أمام شاشة التلفزيون إلى غاية نهاية المشهد الأخير من الفيلم، المُنتَج منذ أكثر من 15 سنة، متحسرا على زمن البطولة العربية من جهة وساخطا على زمن حرّاس الكاميرات الجزائرية الذين لم يطلقوا سراحها بعد لرصد شيء من بطولات ثوّار الجزائر.
كنت دائما أغبط المصريين على صناعتهم السينمائية التي حوّلت بعض تواريخ البطولة المصرية التي تعدّ على الأصابع، على غرار واقعة العبور أو تدمير بواخر إسرائيلية في ميناء إيلات الحربي، إلى مادة سينمائية مكرّرة حفظها العرب، بمن فيهم الجزائريون، عن ظهر إعادة. في الوقت الذي لم يقتربوا فيه سينمائيا من عُشر أوراق أرشيف بطولات الثورة الجزائرية، التي لا تعدّ ولا تحصى.
قبل يومين فقط، كادت مرارتي أن تفقع بعد مشاهدة الجزء الأول من تحقيق توثيقي تلفزيوني جريء، قامت به الزميلة فايزة مقران في التلفزيون الجزائري، بعنوان "مهمّة لها رجالها"، اكتشفت من خلاله أنّه حتى مشاهد واقعة "الطريق إلى إيلات" المصرية التي جرت سنة 1969 وأعيدت سينمائيا بعد 20 سنة، ليست سوى بطولة مستنسخة عن واقعة جزائرية مبتكرة، جرت سنة 1956، أبطالها شباب جزائريون لا يزال بعضهم على قيد الحياة، إلى يومنا هذا، لم نسمع عنهم لا حسا ولا خبرا قبل ليلة الجمعة الماضية.
عندما تسرّح "اليتيمة" شعرها
يرصد تحقيق التلفزيون الجزائري، الذي فاجأني بصراحة وأسقط من ذهني صفة "اليتم" عليه، لمدة 52 دقيقة، يرصد القصة الكاملة لأول عملية رجال ضفادع، في تاريخ الجزائر، لكن لست أعرف إن كان مُعدّوا هذا التحقيق يدركون أنهم نفضوا الغبار عن أرشيف عمليّة ثورية يمكن اعتبارها أوّل عملية رجال ضفادع في الوطن العربي، قام بها شباب جزائريون.
عثمان دمرجي، عبد الله دباغ، أحمد شيبان، يحيى رحال، مسعود بزّة، شربال بن عمر، رشيد بن دريس وعبد القادر جوتي.. شباب في عمر الورد كانوا نواة القوات الخاصة البحرية، التي استحدثتها جبهة التحرير الوطني، سنة 1956، بفكرة من الزعيم الثوري أحمد بن بلّة الذي كان آنذاك متواجدا في القاهرة، وقررّ القيام بعملية مبتكرة ضدّ السفن الفرنسية الراسية بميناءي طولون وبرست الفرنسيين وميناء المرسى الكبير بوهران، وباعتبار أنّ بن بلّة كانت تربطه علاقة طيّبة مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، طرح بن بلة على عبد الناصر فكرة استضافة شباب جزائريين للتدريب في القوات البحرية المصرية، وهو ما وافقت عليه الجهات المصرية؛ حيث تم بالفعل تجنيد تسعة متطوعين جزائريين، منهم من كانوا يدرسون في القاهرة، ومنهم من استقدموا بجوازات سفر مزّورة من فرنسا وألمانيا..
اجتمع الشباب التسعة في القاهرة، وليس في أذهانهم تخمين واحد عن سبب اجتماعهم، غير أنهم كانوا يدركون أنّ لقاءهم ببن بلّة واللواء المصري فتحي الديب، والدكتور هدّام، كان عنوانا لخدمة وطنهم المستعمر.
طرح بن بلّة على الشباب مسودّة فكرته وخيّرهم بين الدخول في مغامرتها أو العودة معزّزين مكرّمين إلى ديارهم، وقبل أن ينهي بن بلّة كلامه، بصموا بالعشرة على قبول الشرف، ووقّعوا ورقة أوّل رجال ضفادع في تاريخ الجزائر، دخلوا بعدها في تدريبات صارمة (تشبه إلى حدّ التطابق تلك التدريبات التي نقلتها المخرجة المصرية إنعام محمد علي في فيلمها "الطريق إلى إيلات")، للقيام بعملية منظمة تحت سطح البحر لتدمير بواخر فرنسية من خلال سباحة ثلاث فرق كلّ فرقة مكونة من زوجين، مهمتهم تلغيم قعر بواخر في ثلاث موانئ (طولون، برسن والمرسى الكبير)، بقنابل موقوتة والعودة سباحة إلى الشاطئ (وأكاد أجزم أن الكثير من الذين شاهدوا فيلم الطريق إلى إيلات انطبقت مشاهد الفيلم المصري في مخيلتهم مع هذه المشاهد التوثيقية الجزائرية)..
وبالعودة إلى هذا الفيلم المصري، الذي يلعب دور البطولة فيه، كلا من عزت العلايلى ونبيل الحلفاوى وصلاح ذو الفقار، نُذكّر أن أحداثه جرت إبان حرب الاستنزاف عام 1969 قبل حرب أكتوبر عام 1973 (أي بعد أكثر من 12 سنة من استحداث فرقة الضفادع البشرية الجزائرية) ويرصد الفيلم قيام مجموعة من الضفادع البشرية المصرية بمهاجمة ميناء إيلات الحربي ونجاحهم في تدمير سفينتين حربيتين هما "بيت شيفع" و"بيت يم"، ثم عودة هؤلاء الضفادع سالمين بعد إتمام مهمتهم بنجاح.
في الحقيقة؛ لم أكتف باستحضار مشاهد فيلم "الطريق إلى إيلات" من مخيلتي فحسب، بعد رؤية تحقيق الصحفية الجزائرية بالتلفزيون الجزائري، وإنما قمت ببحث عاجل على النت عن القصة الحقيقية (غير السينمائية) وعثرت على تصريح مطول في سياق حوار صحفي للضابط البحري المصري عمرو البتانوني (جسّد دوره في الفيلم الفنان عزّت العلايلي) يقول البتانوني في إجابته عن سؤال فكرة عملية الطريق إلى إيلات: "في أعقاب النكسة بدأت القوات المسلحة كلها في إعادة بناء نفسها بالإعداد والتدريب والتسليح والتنظيم.. إلخ، وكل هذا كان ممكنا لكن الشيء الأصعب كان إعادة الروح المفقودة لفرد القوات المسلحة بعد النكسة وما كسرته في داخل صفوف المقاتلين.. ففكّر الفريق محمد فوزي بعدما تولى المسؤولية بابتكار فكرة العملية واللجوء للقوات الخاصة لتنفيذ عمليات ناجحة خلف خطوط العدو تعيد الروح المعنوية ليس للقوات المسلحة فقط ولكن للمصريين جميعا"..
تسعة أياد جزائرية في مهمة إنقاذ مصرية
شدتني جملة "ابتكار فكرة العملية" في تصريح البتانوني، وأدركت كم نحن مقصرّون في حقّ أبطال ثورتنا المباركة، وكمثال على هذا التقصير في حقّهم سأورد قصّة، ذكرها البطل عبد الله دباغ؛ أحد رجال الضفادع الجزائريين الأحياء المذكورين أعلاه.. قصّة ذكرها دبّاغ في سياق شهادته المنقولة في تحقيق الزميلة فايزة..
يقول دبّاغ: "...أثناء العدوان الثلاثي على مصر، قامت القوات البحرية المصرية بتوزيع ألغام بحرية على طول الساحل الشرقي، قبل أن تدرك أنها قامت بخطأ استراتيجي كبير، يتمثلّ في خطورة تلك الألغام على المصريين أنفسهم، فاجتمع قائد أركان الجيش المصري في قاعة كبيرة مع طلبة البحرية المصرية، وكان من بينهم الجزائريون التسعة المجنّدون من طرف بن بلة، وطرح قائد الأركان قضية الألغام على الحضور، وفتح باب التطوّع لمن يريد المشاركة في انتشال الألغام من البحر، باعتبار أنها عمليّة خطيرة وغير محسوبة العواقب.. بعد لحظات من إنهاء كلمته، لمح قائد الأركان تسعة أيد مرفوعة في القاعة الكبيرة التي تضمّ مئات الضفادع البشرية المصرية، طلب قائد الأركان من الرجال التسعة التقدّم، ليكتشف لاحقا أنهم ليسوا إلا جزائريين"..!! نعم؛ يؤكّد البطل دبّاغ أن رجال الضفادع الجزائريين هم الذين انتشلوا ببراعة وثقة نادرة، كلّ الألغام المنتشرة في أعماق الساحل المصري..
هذه بعض المشاهد التي رأيت أن أنقلها للقارئ الذي لم يتسنّ له رؤية الجزء الأول من تحقيق "مهمة لها رجالها"، الذي بثه التلفزيون الجزائري سهرة الجمعة الماضية، على أن يبثّ الجزء الثاني سهرة الجمعة القادمة. في انتظار أن ينفض السينمائيون الجزائريون الغبار على أرشيف الثورة الجزائرية، قبل أن نجد مشاهد منه في "ابتكارات" الآخرين.

رشدي رضوان
الفجر : 21 - 11 - 2011