من وقتها أصبح للمخابرات الإسرائيلية في الأرجنتين مندوب دائم يتابع نشاط كوهين ويقابله بانتظام، ومن اللحظة الأولى لوصول كوهين إلى هناك وجد كل شيء معدا له، فهناك حساب باسمه في البنك، وشقة مستأجرة باسمه «كامل أمين ثابت» في حي كولي تاكيدا، في قلب مدينة بيونس أيرس، وثمة مدرسة ستعطيه دروسا في اللغة الإسبانية، وعنوان نادي العرب المسلمين في المدينة مع قائمة بأهم رواده، خصوصاً كان عليه أن يهتم بجورجيت الإبنة الصغرى لهواري مشهور، المهاجر السوري القديم الذي يشغل منصبا مهما في الفرع المحلي لشركة «إسو» للبترول.
بدأت شهرة كامل أمين ثابت تنتشر بين أفراد الجالية السورية، باعتباره من أشهر العزاب الظرفاء، خصوصاً بين الجنس الآخر، ثم بدأ يبذل مجهودا مكثفا للتعرف الى الشخصيات البارزة، فبدأ يتردد على النادي العربي ثلاث مرات أسبوعيا، وكانت ثقافته وكراهيته للصهاينة وإعلاناته المتكررة في جريدة «العالم العربي» التي يصدرها أبناء الجالية، سببًا في أن يستحوذ على إعجاب عبداللطيف حسان صاحب الجريدة الذي أصبح صديقه، ومن ثم حصل له على دعوة لحضور حفل استقبال رسمي تقيمه السفارة السورية، وفي الوقت نفسه أيضا ستحتفل زوجة الملحق التجاري بعيد ميلادها، وقال له حسان: «إنك اثرت اهتمام زوجة الملحق التجاري، قالت لي إنك شخصية مؤثرة إلى حد كبير».
لكن كامل قال له إن من يلفت انتباهه حقا هو ذلك الضابط هناك، الذي يبدو فعلا شخصية مؤثرة وفي أوائل الأربعينات من عمره، فصحبه حسان إلى الضابط قائلا: «سيدي اللواء... إسمح لي أن أقدم لكم رجلا وطنيا سورياً بكل ما في الكلمة من معنى»، ثم نظر نحو كامل قائلا: «هذا هو اللواء أمين الحافظ الملحق العسكري للسفارة».
لم يكن الحافظ من النوع المحب للكلام، مع ذلك وبعد قليل من الوقت قال له كامل: «سيدي اللواء... سمعت أن ثمة قلاقل بين جموع شعبنا في سورية في الوقت الحاضر»، فقال الحافظ: «نعم... استغل جمال عبد الناصر الوحدة معنا كي يحاول أن يستولي على سورية ويسيطر على الأمور، ولو أن الأمر بيدي لحطمت هذه الوحدة وقضيت على عبد الناصر وإسرائيل معا».
سأله كامل: «أتعتقد أن سورية قادرة على ذلك بمفردها؟» رد الحافظ: «إني أؤمن بذلك حقا، لكن علينا أولا أن نغير نظام الحكم الراهن، فقد ضللتهم شعارات عبد الناصر الزائفة»، وقال له كامل: «سيدي... لو أن السوريين من أمثالك لكان مستقبل سورية مختلفًا تمامًا. لا يتحقق مثل تلك المعجزات الكبرى إلا على أيدي زعماء مثلك».
كلمات في الصميم
أصابت كلمات كامل ثابت الهدف في الصميم، فقد خاطبت غرور الحافظ الذي كان في تلك اللحظة على اتصال وثيق بمجموعة في دمشق تدبّر لقلب نظام الحكم، وخلال فترة قصيرة توثقت علاقات كامل أمين ثابت تمامًا بالملحق العسكري السوري في الأرجنتين.
استدعت المخابرات الإسرائيلية كوهين، حان الوقت كي يدخل سورية، ونظرا الى أنه يحتاج أجهزة إرسال واستقبال وأدوات أخرى تلزمه في عمله كجاسوس، أُعدت ترتيبات خاصة قبل دخوله سورية: سافر بالبحر إلى بيروت أولا، وتعرف الى شخص معين كان تاجرا من أصل سوري، له علاقات وثيقة برجال الجمارك السوريين على الحدود مع لبنان، وصحبه التاجر فعلا وبعد أن قال الأخير لضابط الجوازات على الحدود إن حقائب كامل لا تضم سوى صور جنسية، وأعطاه مبلغا من المال، مرت الحقائب بسلام.
حمل كامل أمين ثابت في طريقه الى دمشق اسم وعنوان تاجر في دمشق، كي يتصل به ويدبر له «فيللا» بالإيجار. كانت الفيللا تطل على مركز قيادة الجيش السوري في حي «أبو رمانة»، وفي مواجهة المدخل الفاخر لبيت الضيافة حيث ينزل ضيوف الحكومة السورية، وعندما طالبه المالك بإيجار سنة مقدما لم يتردد لحظة ووضع في يده 1300 جنيه نقدا، مستغلاً الميل الطبيعي للثرثرة وتناقل الأخبار، وهو أمر من شأنه أن ينشر بسرعة أخبار الساكن الجديد الثري، ما يجعل من يطرقون بابه كثيرين.
كان حادث انفصال الوحدة بين مصر وسورية وقع قبيل وصول كامل إلى دمشق بأسابيع قليلة، وكان ذلك سر قرار المخابرات الإسرائيلية توجيهه بضرورة ذهابه الى دمشق، فقد كانت التوقعات كافة تشير إلى احتمال قيام انقلاب مضاد يكون مواليا لزعامة عبد الناصر، لذلك لم تكن مكافحة الجاسوسية تشغل أي جزء من اهتماماتهم، ولم يعرف أحد منهم أن هذه الغفلة الكبرى ستكون مقبرتهم جميعًا.
لم يكن كوهين يفضل الوجود في سورية بل كان يريد الذهاب إلى مصر والعمل فيها كجاسوس لحساب إسرائيل، فهو من مواليد الإسكندرية وتعلم في مدارسها، ويجيد اللهجة المصرية، فضلا عن أنه يريد الانتقام من الشرطة المصرية بنجاحها في كشف عملية سوزانا، أو «فضيحة لافون» كما عرفت بعد ذلك، لكن جهاز المخابرات الإسرائيلية رأى أن يرسل كوهين إلى سورية بدلا من مصر، وكانت أسباب ذلك عدة: أولها أن الإجراءات الأمنية في مصر أكثر تطورا وصرامة من سورية، خصوصا بالنسبة الى القادمين من الخارج، وأصبح لمصر جهاز أمني هو الأكثر كفاءة بين الدول العربية كافة، ثم إن سورية، لا سيما بعد الانفصال، أصبحت بابا جديدا لضرب عبد الناصر في مصر وإسقاط هيبته في العالم العربي، والهدف الإسرائيلي العاجل الآن يركز على منع احتمال عودة الوحدة بين مصر وسورية مستقبلا، وهكذا... أصبح إيلي كوهين أو كامل أمين ثابت في دمشق باعتباره أخطر جاسوس لإسرائيل.