التهريب يوميات الحدود..ــــ
قبل سنتين نشرت جريدة الشرق الأوسط الدولية تحقيقا حول واقع الحدود الجزائرية المغربية، وكان من أبلغ ما كتبه مراسلها من وجدة هذه العبارة: "ما يميز أسرار الحدود المغربية الجزائرية هو أنها مفتوحة، فالخبز الساخن الذي يتناوله المغاربة في وجدة (شرق المغرب) هو نفسه الذي عجنه جارهم الجزائري في مدينة مغنية (غرب الجزائر) في ما وراء الحدود، كما أن البنزين الذي يباع في أغلب أزقة المدينة الشرقية المغربية خارج من أعماق الصحراء الجزائرية، وأغلب السيارات في وجدة تسير بالوقود الآتي من الجزائر، مثلما أن أغلب سكان مدينة مغنية الجزائرية يرتدون ملابس صنعت في معامل مدينة الدار البيضاء"•
وكانت هذه الجملة رسما حقيقيا للترابط الحاصل على الحدود بين سكان الجهتين، خصوصا إذا تعلق الأمر بعاصمة الحدود•
إنها من أشهر مدن الغرب الجزائري، ومن أشهر المدن من غير الولايات في الجزائر، مدينة تطاردها الاتهامات، أما هي فتطارد لعنة الحرام التي لحقت بها بعد سنوات من العبث على كل المستويات•• مغنية، أو مدينة الحاجة مغنية التي يطلب بركتها وبركة رجالها كل من زارها، هذه المنطقة تحولت إلى مرتع لكل أنواع الجريمة، وتحفل سجلات مصالح الشرطة بجرائم كبرى في حق الاقتصاد الوطني كون المنطقة تقع في الشريط الحدودي المتاخم للتراب المغربي، مما أدى إلى فرض حصار قانوني على سير المواد ذات الاستهلاك الواسع التي يفترض أنها قابلة للتهريب نحو البلد المجاور، وقد أدت تلك الإجراءات التي شرعت وزارة المالية في تطبيقها إلى إثارة احتجاجات عديدة سرعان ما عرفت خفوتا ثم اندثارا، ولا يعرف هل كان الاحتجاج على فرض إجراءات معينة أم لتضييق الخناق على المناطق الحدودية• وهنا يتحدث بعض أبناء الحاجة مغنية عن التهمة التي تلاحقهم منذ زمن• فالمنطقة التي كانت تدر الذهب والفضة على أصحابها، تحولت إلى مجرد قرية كغيرها من باقي المدن الجزائرية المليئة بالتناقضات والمشاكل اليومية•••
"مغنية ما عادت مغنية"، هكذا يقول أحد سكانها•• أعيانها من الجيل الجديد يرفضون أن تلصق بهم تهمة التهريب، ويقول بعضهم أن المغناوة أكثر الطبقات الاجتماعية فقرا في الولاية، فهي تضم أحياء الفقراء من الطبقات الشعبية التي تعيش أوضاعا، صعبة لكن الواقع الاقتصادي وبلغة الأرقام يؤكد أن أكبر كتلة مالية في السوق تأتي من مدينة مغنية التي كانت تمول وكالات بريد الجزائر بقرابة نصف المبالغ المالية التي يسحبها زبائنها والمقدرة بنحو 40 مليار سنتيم أسبوعيا، وهذا يعكس حجم الكتلة المتداولة•
لكن وبرأي خبير مالي فإن حجم التعاملات الاقتصادية سواء في الأسواق القانونية أو الموازية بدأ يعرف تقلصا ملحوظا بسبب إجراءات التصريح لدى الجمارك والضرائب بالسلع التي تمر نحو النطاق الجمركي بالشريط الحدودي، وهو ما أدى إلى تقلص النشاط التجاري بشكل ملحوظ بداية من نهاية سنة 2005، تاريخ دخول إجراءات مكافحة التهريب حيز التنفيذ من قبل وزارة المالية، في عهد الوزير مراد مدلسي الذي استقبل وفدا من تجار مغنية الكبرى ببلديتها التي كانت تلحقها إداريا قبل آخر تقسيم وبرغم مساعي التجار والأعيان، إلا أن القرار ظل صامدا، وقد تطور الوضع إلى حد اندلاع احتجاجات في كل من مغنية وقرية العابد التابعة لبلدية البويهي وبلدية بني سنوس، وهي مناطق حدودية، وقد رأت السلطات المحلية بتلمسان وعلى رأسها والي الولاية أن تلك الأحداث التي هزت الوضع بالولاية من صنع جهات ومجموعات تتولى نشاطا كبيرا للتهريب في الحدود الغربية، كما رأت جهات أخرى أن المهربين استغلوا خلافات على مستوى الإدارة والوسط المحلي للدفع بالتعفن•
على خط النار•• عداوة مع الدرك
كشف النائب بن حمو، في اتصال مع "البلاد"، عن تسوية الخلاف الذي نشب ببلدية السواني عقب مقتل الشاب الفقيه على يد حرس الحدود، وقال نائب المجلس الشعبي الوطني أن الجاني قد أحيل على المحكمة العسكرية، فيما أرسل كل من والي الولاية وقائد مجموعة الدرك الوطني لولاية تلمسان رسالة تعزية لعائلة الفقيد، وألح محدثنا بالمناسبة على ضرورة التخلي عن المواجهة لحل المشاكل الطارئة كما كان الحال في بلدية السواني، حيث تم اللجوء إلى الحوار لتهدئة الوضع بدلا من حل المشكل عن طريق قوات مكافحة الشغب•
ورغم هذا فإن العلاقة بين الدرك وسكان الشريط الحدودي يسودها التناقض الموجود في المهام والنشاط، ولقد أدت أحداث عديدة إلى تنافر وتباعد بين الطرفين ربما يؤثر بشكل ما في الحصول على المعلومات الأساسية لكنه واقع لا يمكن نكرانه•
السكان يرون أن التهريب هو وسيلة مشروعة في حياتهم اليومية، لأنه أمر مرتبط بمحيطهم السكني والاجتماعي ولا يمكن أن تنتظر من ساكني الحدود نشاطا آخر غير هذا•
أحداث بلدية السواني التي تعتبر امتدادا جغرافيا واجتماعيا لمحيط مغنية بتقاسيمها الموروثة قبل التقسيم الإداري عكست حالة النفور والتباعد بين ساكني الحدود وحرسها، الذين فجروا أزمة انتهت بأحداث عنيفة كادت أن تعيد مشاهد التمرد القاسية في الحدود الغربية، وفي بلدة السواني بالضبط كانت إدارة المطحنة أو المؤسسة الوحيدة التي تشغل 61 عاملا قد أغلقت أبوابها بداية من اليوم الأول من شهر رمضان، لأسباب متعلقة بعدم قدرتها على توفير المادة الأولية، ورفض السلطات المعنية إدراجها ضمن قائمة المطاحن التي تستفيد من الدعم الموجه للمطاحن في أسعار القمح، وبعد ثلاثة أيام من قرار الغلق وتزامن ذلك مع مقتل الشاب فقيه على يد ضابط من حرس الحدود، انفجر هدوء بلدية السواني دون سابق إنذار مع عناصر حرس الحدود• السوق الموازية واقع اقتصادي لم تعد الأرقام الخاصة بالمحجوزات الدليل أو المعيار الكافي لتشريح الظاهرة، فالصحف ووسائل الإعلام تنشر يوميا أرقاما تعكس حجم نشاط المصالح المكلفة بمحاربة التهريب، لكن هذه الأرقام لا تعكس حجم الظاهرة بحد ذاتها، فأرقام الدرك الوطني أو عناصر الحرس الحدود تشير إلى حجز أكثر من 460 ألف لتر من المازوت خلال السنة الماضية، أي بمعدل 1260 لترا يوميا، كما حجزت 36758 لترا من البنزين و252 سيارة تستعمل في التهريب، أما القيمة المالية لمحجوزات الدرك الوطني خلال السنة الماضية فبلغت أكثر من 893 مليار سنتيم، كما تم توقيف 90 مهربا خلال السداسي الأول من السنة الجارية•
ونشير إلى أن هذه السلع والمركبات كانت في معظمها بصدد المرور نحو التراب المغربي المحاذي لمغنية، وهذا المظهر تعكسه الطوابير التي تظهر باكرا أمام محطات بيع البنزين، أمام الملأ، على اعتبار أن السوق الموازية أصبحت ظاهرة أو أمرا واقعا لا يمكن نكرانه بأي حال من الأحوال، لذلك يشاهد الزائر لمدينة مغنية تلك الطوابير التي تمتد من أول محطة بنزين على الطريق الوطني رقم 35 وهي تتحدى كل النظرات، فالسوق الموازية تشغل آلاف الشباب في تهريب الوقود، وهي تعيل مئات العائلات بهذه المنطقة لوحدها، فالواقع الاقتصادي يؤكد ذلك، وعليه لم تعد أي وسيلة تخيف هؤلاء لأن قوتهم اليومي والظروف المعيشية تدفع بهم إلى المغامرة المستمرة جريا وراء لقمة العيش•
وبمحطة بيع الوقود بالشبكية، وكغيرها من المحطات الأخرى، تتواجد عشرات السيارات في انتظار الوقود، بعد أن تكون الشاحنة المخصصة لنقله قد تأخرت عن الوقت المحدد، فكل الحسابات دقيقة هنا، والتأخر يعني خسارة فادحة للبعض ممن يرتبط بمواعيد محددة•
نترك محطات بيع الوقود المتواجدة على طول الطريق الرابط بين مغنية ومرسى بن مهيدي، ونعود نحو مدينة مغنية التي تبحث عن مكان في الظل هذه الأيام•
النائب بن حمو ومبدأ "دعه يمر" بخلاف كل النواب الذين عرفتهم ولاية تلمسان، وبجرأة حادة، يطرح عضو المجلس الشعبي الوطني ورئيس كتلة حزب الأفانا، أكبر قضية تتعلق بالعقوبات المسلطة على الشباب من سكان الشريط الحدودي• النائب المنحدر من بلدية السواني والمحسوب على مدينة مغنية، يلقى شعبية بين أوساط السكان من مرسى بن مهيدي إلى قرية ماقورة، نتيجة مطلبه الذي رفعه خلال الحملة لانتخابية ووعد السكان برفعه للجهات المعنية وقد أعلنه في تدخل متلفز تحت قبة البرلمان• ويطالب البرلماني والمحامي بن حمو حسب تصريح لـ"البلاد" بإسقاط العقوبات القاسية التي تصدر في حق شباب لمجرد حيازتهم على صفيحة 10 لترات من الوقود، بالسجن لمدة لا تقل عن 4 سنوات، ويرى بن حمو أن هذه الأحكام التي تصدر وفق قانون مكافحة التهريب مجحفة وقاسية، فهي تدمر ما تبقى للشباب القاطن بالحدود من آمال، وتضع درجة خطورة تهريب الوقود مع نفس درجة تهريب المخدرات، مما قد يدفع الشباب إلى التفكير في تهريب المخدرات بدلا من الوقود ما دامت العقوبة واحدة والأرباح مختلفة!! ويرى نائب المجلس الشعبي الوطني أن الوضع الاقتصادي الحرج والاجتماعي الذي تعيشه المناطق الحدودية يتطلب حلولا أبعد من مجرد التضييق، ويقترح أن يكون قانون مكافحة التهريب آخر خطوة في مسار علاج الظاهرة وأسبابها• وأوضح بن حمو أن هناك مساع لمراجعة القانون في أقرب الآجال، وهو ما تم تأكيده من طرف مسؤولين كبار لذات النائب بعدما تبين أن العقوبات جاءت بأثر عكسي•
صندوق تنمية المناطق الحدودية•• حلم لم يتحقق يطرح الكثير من المتتبعين لظاهرة التهريب، خاصة على الحدود الغربية، مقترحا يتمثل في استحداث صندوق وطني لتنمية المناطق الحدودية، ويرى السيناتور الدكتور الواد محمد من الثلث المعين بمجلس الأمة، في تصريح لـ"البلاد"، أن هذا الصندوق أو مبادرة خاصة للجهة الحدودية ستخفف من العزلة القائمة التي لم تتمكن البرامج العادية من فكها، نظرا لحجم التخلف الذي كان مسجلا طيلة العقود الماضية، ويرى الرجل أن أهم ما يجب القيام به على مستوى الشريط الحدودي هو تكثيف برامج الدعم المدروسة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقطاع الفلاحي مع مراعاة نمط كل جهة من مرسى بن مهيدي إلى بلدية البويهي• ويبقى صندوق تنمية المناطق الحدودية حلما يراود المنتخبين والسكان ومطلبا تحبذه السلطات المحلية، مع الإشارة إلى أن إدراج بعض البلديات الحدودية ضمن مشروع صندوق تنمية الهضاب العليا العام الماضي بدأ يعطي متنفسا جديدا للتنمية المحلية بتدعيم المنشآت القاعدية وتوفير الماء الشروب وشق الطرقات• المجتمع المدني•• أين الصحافة من الوضع المزري لفقراء مغنية؟ أصدرت 6 جمعيات محلية من مدينة مغنية بيانا أرسلته لـ"البلاد"، توضح فيه بعض اللبس الحاصل حول عاصمة الحدود الغربية، بعد الموضوع الذي نشرته "البلاد" بعنوان "ماذا يريد المغناوة: دولة المافيا أم دولة القانون؟"، ونشير إلى أن العنوان كان تساؤلا وليس حكما أو جوابا من طرف كاتبه•
وتؤكد الجمعيات المحلية أن أحداث السواني لا علاقة لها بمغنية، وأن المغناوة لا ذنب لهم في مشكل هو من فعل سكان دائرة أخرى• ويضيف البيان "إن مدينة مغنية بعيدة كل البعد عن هذه الاتهامات التي مافتئت الصحافة تلصقها بها للإساءة إلى سكانها"•
وبلهجة أكثر حدة وواقعية يقول بيان الجمعيات "إن الصحافة المكتوبة لا تعرف لمدينة مغنية إلا المساوئ والفساد، حتى لقبتها بملجأ بارونات الكيف والمخدرات، بينما معظم سكانها منغمسون في الفقر "، ويتساءل البيان "أين كانت الصحافة ومراسلوها لما كان فريق مغنية لكرة اليد يضرب به المثل على الصعيد الوطني؟ أين كانت الصحافة لما كان طلبة دائرة مغنية يحصلون على النتائج الجيدة في معظم الامتحانات والمسابقات؟"•
ويختم الموقعون على البيان توضيحهم بالمطالبة برد الاعتبار لمدينتهم قائلين: وترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقها الندى إكليلا.
موضوع: التهريب يوميات الحدود.. 
الثلاثاء أبريل 21, 2009 7:04 pm
