وقد ركزت السياسة الاستعمارية محاولة هدمها لكل شئ كان في حوزة الجزائريين سواء المؤسسات الدينية ,وعلى رأسها المساجد والجوامع والمدارس والزوايا، لما لهذه المؤسسات من دور في الحفاظ على مبادئ ومقومات ومعتقدات الشعب الجزائري وانتمائه الحضاري العربي الإسلامي، وقد عبر عن ذلك (جانتي دي بوسي)مدافعا عن هذه السياسة "الحضارية" بقوله:" أخدنا الجزائر فنحن أصحابها بلا منازع وسنعمل فيها كل ما يحلو لنا سواء من ناحية الهدم أو غيره"
ولا غرابة في هدا الافتخار الحضاري لممثلي الحرية والمساواة الدنيئة والحقيرة, إذ لا يمكننا تعداد كل هذه الفظائع الاستعمارية والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في الجزائر التي غالبا ما كانت تتبعها ردود أفعال الشعب الجزائري بالمقاومة و التمرد على الإدارة الاستعمارية .
يقول المحلل السياسي عمار بوحوش في كتابه "التاريخ السياسي للجزائر"3 "إن سياسة فرنسا مثل ما قال منير فيل أول رئيس لمحكمة الجزائر في عهد الاحتلال الفرنسي,كانت تقوم على أساس فكرة أساسية خلاصته هي انه "ينبغي أن يذوب المسلمون في الحضارة الفرنسية لان الشعب القادم من الشمال جاء ليستقر في الجزائر" والمشكل في رأيه انه لا يمكن لمجتمعين مختلفين في كل شئ ,من عقيدة إلى تقاليد أن يندمجا إلا بابتلاع شعب لشعب .ولهذا فلا بد من خلق وتكوين شخصية جديدة للجزائر تختلف عن شخصية ابن البلد الأصلي وغير مشابهة لشخصية الفرنسي الحقيقي المتواجد في فرنسا . وبالتالي فا
الجزائر الجديد هو المهاجر الأجنبي الذي يحافظ على ثقافته و عاداته وتقاليده وثروته و نفوذه و يرفض الاندماج في المجتمع الجزائري الأصلي أو المجتمع الفرنسي الأصلي الموجود في فرنسا ذاتها .
وهذا معناه أن المهاجرين الأوروبيين كانوا يريدون أن يقيموا دولة في الجزائر ويسيطروا عليها, بدلا من الولاء لفرنسا, يضيف بوحوش قائلا: " في الحقيقة إن المشكل الذي كان يزعج هؤلاء المهاجرين الأوروبيين هو انه بالرغم من حصولهم على الجنسية الفرنسية و تمثيلهم في البرلمان الفرنسي هو أن الجزائر التي أصبحوا يسيطرون عليها لازالت عالة على باريس والمجتمع الفرنسي من الناحية المالية , و خاصة بعد انخفاض الضرائب العربية من 21 مليون سنتيم سنة 1887 إلى 15 مليون سنتيم سنة 1910. ففي عام 1889 كان عائدات ميزانية الجزائر تقدر بنسبة 80% من الضرائب العربية في حدود 45 مليون سنتيم، في حين كانت مصاريف الجزائر في تلك السنة 125 مليون سنتيم كوعاء مالي لحكومة تسعى بسط (نفوذها)على أرض عربية ،تتمتع بالاستقلالية المالية والشخصية المدنية, وما على فرنسا إلا أن تقوم بصرف الأموال على الجيش الذي ينحصر دوره في توفير الأمن لهم".
من هنا يتضح-حسب بعض المحللين – إن الحاكم العام كان في الحقيقة عبارة عن شخصية سياسية تمثل الجهاز المركزي الفرنسي في الجزائر لا غير, كان غير منتخب و لا يملك جيشا, وبقاؤه في السلطة المحلية يتوقف على رضا الأوروبيين الذين كانوا في الواقع يسيرون البلاد، فالحاكم العام كان يمثل قرارات النواب الأوروبيين في المجلس التالي الذي أقاموه في الجزائر العاصمة ،حيث كانوا يشرّعون فيه لأنفسهم ويتخذون فيه جميع القرارات المالية التي تخدم مصالحهم , بدون تدخل من باريس, و ذلك بمقتضى قانون 19 ديسمبر 1900, كما كان النفوذ الحقيقي و الأساسي في رؤساء البايات الأوروبيين الذين كانوا يسيطرون على المجالس المحلية المنتخبة و يحكمون محليا في البلاد مثلما (Indignât) يطيب لهم. و بالمقابل كان قانون الأهالي يطبق بكل صرامة على كل مسلم لا يمتثل لأوامر هؤلاء الحكام المحليين ولا يعلن ولاءه لفرنسا وقادتها. كما كانت هناك محاكم خاصة تحاكم المسلمين المخالفين للقانون, واستمر هذا الوضع حتى سنة 1994 حيث تم إلغاؤه.
جدير بالإشارة إلى أن الأقلية الأوروبية في الجزائر كانت تمارس ضغوطات على جميع الحكومات المركزية بباريس حتى سنة 1900 وتفرض خطتها (قسرا) ، و التي اشتملت على ثلاث مراحل رئيسية :
1- المرحلة الأولى : تتمثل في اندماج الجزائر في فرنسا من الناحية القانونية التي تسمح بابتلاع الجزائر وجعلها جزءا لا يتجزآ من فرنسا.
2- المرحلة الثانية: تتمثل في الاستيلاء على الأراضي الخصبة وإعطاء الجنسية لجميع المهاجرين و المقيمين الأجانب في الجزائر و الحصول على دعم مالي من الدولة على تحقيق مصالحهم , فبالنسبة )
(Raymond Aron( للأراضي تشير الإحصائيات الصادرة سنة 1954, حسب ارون
إلى أن فرنسا دعمت 24,900 أوروبي لكي يحصلوا على 2,720,000 هكتار من أخصب الأراضي بحيث كانت نسبة ملكية الأوروبي 109 هكتار للفرد الواحد , في حين كان 532,000 مسلم جزائري يملكون 7,612,000 هكتار أي بمعدل 14هكتار للفرد الواحد.
3- المرحلة الثالثة: إعطاء الجالية الأوروبية حكما ذاتيا يسمح لها باستعمال الغش و المناورات و الدسائس لفرض نفوذها على الجزائريين و التحكم فيهم إلى الأبد, كما يشير الأستاذ بوحوش .
وفيما يتعلق بمسالة جلب المهاجرين و المغامرين الأوروبيين من الخارج وإعطاء الجنسية الفرنسية لليهود حتى يكثر عددهم و يكون لهم الوزن السياسي الكبير و المثير في هذه الأرض العربية المغتصبة, كان يبدو لهؤلاء التغلب بصفة أو بأخرى على الأهالي,و إن اقتضى الأمر تشريدهم و تقتيلهم.
و كانت جنسيات المستوطنين (الكولون )و المغامرين في الجزائر سنة 1855 كالتالي حسب الأرقام التي وردت في كتاب إبراهيم سياسي:
*فرنسيون: 89.969 *بلجيكيون و هلنديون 444
* اسبان: 42.569 *انجليز و ارلنديون: 434
* ايطاليون: 9.082 * بولونيون : 290
* مالطيون: 6.536 * برتغال: 285
* المان: 6.040 * سويسريون: 2.105