التطوّر التاريخي:
حين أطلق الرئيس الأمريكي أيزنهاور مبادرة (الذرة من أجل السلام) عام 1953م لاستغلال الإمكانات الهائلة الكامنة في الذرة من أجل توفير الطاقة والمياه اللازمتين لحل مشكلات التنمية في العالم، كانت مصر من أوائل دول العالم التي استجابت لهذه المبادرة لضمان التنمية المستديمة فيها، ففي عام 1955م تم تشكيل لجنة الطاقة الذرية برئاسة الرئيس جمال عبدالناصر، لوضع الملامح الأساسية للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية في مصر، وفي يوليو من العام التالي تم توقيع عقد الاتفاق الثنائي بين مصر والاتحاد السوفيتي بشأن التعاون في شؤون الطاقة الذرية وتطبيقاتها في النواحي السلمية، وفي سبتمبر من عام 1956م وقّعت مصر عقد المفاعل النووي البحثي الأول بقدرة (2 ميجاوات) مع الاتحاد السوفيتي، وتقرر في العام التالي إنشاء مؤسسة الطاقة الذرية، تلا ذلك اشتراك مصر عام 1957م عضواً مؤسساً في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبفضل ثقة العالم في النوايا السلمية للبرنامج النووي المصري حصلت مصر على معمل للنظائر المشعة من الدنمارك في العام نفسه، وبدأ تشغيل المفاعل النووي البحثي الأول عام 1961م، و تم توقيع اتفاق تعاون نووي مع المعهد النرويجي للطاقة الذرية، وفي عام 1964م طرحت مصر مناقصة لتوريد محطة نووية لتوليد الكهرباء قدرتها (150 ميجاوات) (150 ألف كيلووات) وتحلية المياه بمعدل (20) ألف متر مكعب في اليوم، وبلغت التكلفة المقدرة (30) مليون دولار، إلا أن حرب يونيو 1967م أوقفت هذه الجهود
وبعد حرب 1973م طرحت مصر عام 1974م مناقصة لإنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء قدرتها (600 ميجاوات)، وتم توقيع عقد لإخصاب اليورانيوم مع الولايات المتحدة، وشهد عام 1976م إصدار خطاب نوايا لشركة وستنجهاوس، وكذلك توقيع اتفاقية تعاون نووي مع الولايات المتحدة، إلا أن تلك الجهود توقفت في نهاية السبعينيات، بسبب رغبة الولايات المتحدة لإضافة شروط جديدة على اتفاقية التعاون النووي مع مصر نتيجة لتعديل قوانين تصدير التقنية النووية من الحكومة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، بحيث تشمل هذه الشروط التفتيش الأمريكي على المنشآت النووية المصرية كشرط لتنفيذ المشروع، وهو ما اعتبرته الحكومة المصرية ماساً بالسيادة ورفضته، وأدى ذلك إلى توقّف المشروع، وانضمت مصر عام 1981م لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية ووقعت عدة اتفاقيات للتعاون النووي مع كل من: فرنسا، والولايات المتحدة، وألمانيا (الغربية)، وانجلترا، والسويد، وقررت الحكومة تخصيص جزء من عائدات النفط لتغطية إنشاء أول محطة نووية (محطة الضبعة بالساحل الشمالي)، كما وقعت في العام التالي 1982م اتفاقية للتعاون النووي مع كندا، وأخرى لنقل التقنية النووية مع استراليا
وفي عام 1983م، طرحت مصر مواصفات مناقصة لإنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء قدرتها (900 ميجاوات)، إلا أنها توقفت عام 1986م، وكان التفسير الرسمي لذلك هو المراجعة للتأكد من أمان المفاعلات بعد حادث محطة (تشيرنوبل)، رغم أن المحطة التي كانت ستنشأ في مصر من نوع يختلف تماماً عن النوع المستخدم تشيرنوبل، مما يوحي بأن التبرير الرسمي لإيقاف البرنامج كان مجرد تبرير لحفظ ماء الوجه
فقد ذكر الدكتور (علي الصعيدي) رئيس هيئة المحطات النووية المصرية أن بنك التصدير والاستيراد الأمريكي أوصى بعدم تمويل المحطة النووية المصرية، كما امتنع صندوق النقد والبنك الدولي عن مساندة المشروع، ثم جاءت حادثة تشيرنوبل والحملات الدعائية الغربية لتخويف دول العالم الثالث، ومن ثم لتجمّد المشروع النووي المصري
وتميزت الفترة - منذ نهاية الثمانينيات حتى الوقت الراهن - بمحاولة كسب التأييد السياسي لدفع البرنامج النووي واستمرار استكمال الكوادر المطلوبة للبرنامج، علاوة على استكمال الدراسات الفنية، فتم إنشاء محاكي المحطة النووية بالموقع المقترح لهيئة الطاقة النووية بالضبعة، وحدث تعاون بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهيئة المحطات النووية المصرية، لدراسة جدوى إقامة المحطات النووية ذات المفاعلات الصغيرة والمتوسطة الحجم، وتم الانتهاء من الدراسة عام 1994م. وفي عام 1992 تم توقيع عقد إنشاء مفاعل مصر البحثي الثاني مع الأرجنتين، ثم توالت في السنوات 95، 96، 1998م بعض المشروعات المتعلقة باليورانيوم ومعادن الرمال السوداء وصولاً إلى افتتاح مصنع وقود المفاعل البحثي الثاني
وفي خطوة مثيرة بعد تردد أكثر من 16 عاماً أعلنت مصر في مايو 2002م عن إنشاء محطة للطاقة النووية السلمية في غضون 8 أعوام بالتعاون مع كوريا الجنوبية، والصين، وهو ما وصفه خبراء مصريون في الطاقة بنقلة نوعية هامة على طريق البرنامج المصري، خصوصاً وأن مصر كما يقولون لديها "انفجار" في الكوادر العلمية النووية بدون عمل تقريباً، كما أن المفاعلين الموجودين حالياً يكفيان لتدريب العلماء تجريبياً وليس تطبيقياً، وأرجع بعضهم إنشاء المحطة الجديدة إلى استيعاب الكوادر الفنية المصرية المتزايدة في مجال الطاقة النووية، وربما أيضاً لعدم الاعتماد فقط على الغاز الطبيعي في مجال الطاقة. وترجع أهمية الإعلان عن إنشاء هذه المحطة إلى رفض مصر على مدى 16 عاماً فكرة بناء مفاعلات نووية لأسباب مختلفة، وكان الرئيس المصري (حسني مبارك) قد كرّر أكثر من مرة في تصريحات رسمية رفضه بناء مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة بسبب مخاطرها، إذ قال في طريق عودته في 29 أبريل 2001م من جولة شملت ألمانيا ورومانيا وروسيا: إنه "لا تفكير في الوقت الحالي في إقامة محطات نووية لتوليد الكهرباء في مصر، لأنه تتوافر لدينا كميات كبيرة من الطاقة، واحتياطات الغاز الطبيعي المبلشرة في تزايد من عام إلى آخر، وفي ضوء عدم ترحيب الرأي العام المصري بإقامة مثل هذه المحطات
2 القدرات المصرية النووية:
من خلال التطور التاريخي للبرنامج النووي المصري، فإن قدرات هذا البرنامج تتركز في إنشاء المراكز البحثية، والمفاعلات البحثية، وتأهيل الكوادر البشرية، والتعاون الإقليمي والدولي:
المراكز البحثية النووية:
أقامت مصر عديداً من المراكز، من أقدمها مركز البحوث النووية، وتتنوع نشاطاته لتشمل البحوث النووية الأساسية، وبحوث الطرف الأمامي لدورة الوقود النووي والمفاعلات، وكذلك تطبيقات النظائر المشعة في الطب والصناعة والزراعة.
l المركز القومي لبحوث وتقنية الإشعاع: ويهدف إلى تنمية البحوث والتطوير باستخدام الإشعاعات المؤينة في مجالات الطب والزراعة والبيئة وغيرها، ويضم المركز العديد من تسهيلات البحث والتطوير التي من أهمها وحدة التشعيع الجامي والمعجّل الإلكتروني.
l مركز المعامل الحارة وإدارة المخلفات: ويهدف إلى تطوير الخبرة في مجالات الطرف الخلفي لدورة الوقود النووي، ومعالجة المخلفات المشعة، وكذلك إنتاج النظائر المشعة المستخدمة في مختلف التطبيقات الطبية والصناعية.
ب المفاعلات النووية البحثية:
l المفاعل النووي البحثي الأول (ET-RR-1): بدأ العمل به عام 1961م، بمساعدة الاتحاد السوفيتي السابق، وهو مصمم لإنتاج النظائر المشعة وتدريب العاملين والفنيين، وهو مفاعل تجارب فقط، تبلغ قوته (2 ميجاوات)، ويعمل باليورانيوم المغني، ويوجد به (9) قنوات كل قناة تسمح بخروج نيوترونات بقدر معين واتجاه معين لإجراء تجارب التشعيع وإنتاج النظائر المشعة، ويفصل بين المشتغلين في كل قناة حائط ضخم من الرصاص يمنع تأثير الإشعاعات لكل قناة على تجارب القناة المجاورة لها، ولا يصلح الوقود النووي الناتج من تشغيل المفاعل للأغراض العسكرية.
l المفاعل النووي البحثي الثاني متعدد الأغراض (MRR): أقيم بالتعاون مع الأرجنتين وتم افتتاحه في فبراير 1998م، بقدرة (22 ميجاوات) ويعد إضافة تقنية جديدة في الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، ولا يستخدم في الأغراض العسكرية، ويحقق مردوداً اقتصادياً بإنتاج عديد من النظائر المشعة، ومصادر إشعاع جاما اللازمة لتشغيل معدات علاج الأورام، بالإضافة إلى تعقيم المعدات الطبية والأغذية، وينتج المفاعل رقائق السيلكون المستخدمة في الصناعات الإلكترونية الأساسية، ويقوم باختبار سلوك الوقود والمواد الإنشائية للمفاعلات، ويساهم في توفير النظائر المشعة المطلوبة للتطبيقات الطبية والزراعية والصناعية، ويؤهل مصر للاعتماد على الذات في مجالات الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.
ج تأهيل الكوادر البشرية:
تضطلع هيئة الطاقة الذرية المصرية ببرامج للتأهيل والتطوير المستمر للكوادر البشرية العاملة بها، والملتحقين الجدد، وذلك للإلمام بمبادئ الفيزياء الصحية والوقاية الإشعاعية والتعامل مع المصادر الإشعاعية، وهناك برامج متخصصة لكل مركز من مراكز الهيئة لتأهيل الكوادر الخاصة قبل الالتحاق بالعمل. وتجري الهيئة سلسلة متواصلة من برامج التدريب تغطي عديداً من المجالات، من أهمها: تطبيقات مفاعلات البحوث، والمعجلات، الوقاية الإشعاعية، تطبيقات النظائر المشعة، الإلكترونيات، تحلية مياه البحر، تآكل الفلزات وحمايتها، تحليل الانهيارات، اللحام، الأمان البيئي، توكيد الجودة، إدارة المخلفات، وتجري بعض هذه الدورات التدريبية ضمن برنامج التعاون الإقليمي والدولي.
د التعاون الإقليمي والدولي:
شاركت هيئة الطاقة الذرية المصرية كعضو مؤسس في الوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 1957م، ومنذ هذا التاريخ أبرمت الهيئة اتفاقيات للتعاون الثنائي مع العديد من الدول في مجالات تبادل المعلومات، والتدريب، ونقل التقنية، وتبادل الخبرات، وتوريد المعدات الفنية. وتأتي مصر على رأس قائمة الدول التي تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتمويل مشروعاتها البحثية والتقنية، وتشارك الهيئة المصرية في برامج للتعاون مع دول ومنظمات دولية كثيرة على المستويين الإقليمي والدولي، تشمل: الدول الإفريقية، والهيئة العربية للطاقة الذرية، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، والمركز الدولي للفيزياء النظرية بإيطاليا، وجمهورية روسيا الاتحادية، والولايات المتحدة، والأرجنتين، وكندا، والهند.
3 تقويم التجربة المصرية في المجال النووي:
من خلال استعراض التطور التاريخي للبرنامج النووي المصري، وإمكانات وقدرات هذا البرنامج يمكن رصد الملاحظات التالية:
أ استطاعت مصر في فترة متقدمة استكمال كثير من المتطلبات التنظيمية من حيث القوانين المنظمة لعمل الهيئة المختصة وما يتبعها من مراكز، علاوة على الفصل بين هيئات الأبحاث والهيئات المختصة بإنشاء المفاعلات النووية أو المسؤولة عن دورة الوقود النووي
ب تميزت الجهود المصرية بكثير من الشفافية، وبخاصة في مرحلة السبعينيات والثمانينيات، وبالتالي لم تواجهها عقبات تذكر من الرقابة الدولية، ومن ثم لم تقف التشريعات الدولية حائلاً أمام امتلاك برامج نووية سلمية أو على الأقل اتخاذ خطوات فعّالة في هذا الاتجاه
ج وصلت التجربة المصرية إلى حد أن كانت المسافة بين المشروع النووي الإسرائيلي والمشروع النووي المصري عام 1965م، 18 شهراً وفقاً لتقديرات دولية وأمريكية، كما وصلت إلى حد مرحلة إرساء العطاء لتوريد محطة نووية على شركة محددة (محطة الضبعة 1986م)، وبالتالي تكون هذه التجربة قد بلغت مرحلة متقدمة جداً من مراحل تطبيق واقعي لبرنامج نووي
د إن التجربة المصرية تجسّد إشكالية تبني برنامج نووي طموح في معظم الدول النامية وبخاصة الدول العربية حيث ضعف الإمكانات الاقتصادية، وضرورة الاعتماد على الخبرات والمساعدات الأجنبية، مما سيعرّض المشروع كله إلى مخاطر كثيرة، وفي طليعتها سحب الخبراء وإيقاف المساعدات وغير ذلك من مخاطر وضغوط.
ه رغم حالة التعثّر التي مر بها المشروع النووي المصري فإنه من الممكن التغلّب على كافة المعوقات بامتلاك الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية الواضحة، والعمل الحقيقي للتعاون لتوفير التمويل اللازم، وتبادل الخبرات المتوافرة، وهو ما يؤكده إقامة المفاعل البحثي الثاني، حيث تم التوجه لتدريب كوادر شابة لتوطين التقنية النووية، واختيار الجهة التي قدمت عرض مصنع الوقود، علاوة على تخفيض قيمة العرض، رغم عروض أخرى مقدمة من دول كبرى في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وعلاوة على ذلك اضطلاع القطاع الخاص المصري بالإنشاءات المدنية والأعمال الكهربائية والميكانيكية، وتصنيع وعاء المفاعل ووعاء الماء الإضافي، وهو ما يوضح إمكانية مشاركة الصناعة المصرية في إنتاج أجزاء عديدة خاصة بالمحطة النووية وإنتاج الوقود والماء الثقيل في حالة الحاجة إليها
و بدأ المشروع النووي المصري طموحاً سنة 1955م، وبدا وكأن بإمكانه التوسّع والنمو، وسرعان ما بدأ يتراجع بشكل ملحوظ بعد هزيمة يونيو 1967م، حيث توجه الدعم المادي وموارد البلاد نحو إعادة تسليح وبناء الجيش المصري، وتركز جهود القيادة السياسية على الإصلاح الاقتصادي، وإعادة بناء البلاد بعد الحرب، وشهدت فترة السبعينيات تراجعاً مستمراً في الاهتمام بهذا المشروع، خصوصاً مع توقيع اتفاقيات السلام مع إسرائيل، وهجرة معظم علماء الذرة المصريين، ثم بالتوقيع على معاهدة حظر الانتشار النووي 1981م، ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية 1986م، الأمر الذي اعتبره المراقبون تخلياً عن الخيار النووي