الوفاة هي الموت حصرًا
توفى الله فلانا لا تعني إلا قبَض روحه، وليس لها معنى آخر. والقول أن من معانيها النوم إذا وُجدت قرينة قول غير دقيق، بل الصحيح أن يُقال: يُطلق الموت على النوم مجازا إذا وُجدت قرينة. وهذا لا يعني أن "التوفي" صار له معنى آخر، بل ليس له إلا معنى واحد، ولكنه حُمل على المجاز.
ومثال على ذلك: سال الوادي، ويُقصد: سال الماء فيه. ولا يعني هذا أن مِن معاني الوادي هو الماء، بل يقال أُطلق الوادي وأُريد به الماء لأنه محلّ له.
وهكذا هنا، فالتوفي لا يعني سوى الموت، ولكن يُطلق على النوم لفظُ الموت لوجود تشابه بينهما، ولكن هذا لا يعني أنّ مِن معاني الموتِ النومَ.
وقد وضّح الامام احمد مرزا علام معنى التوفي بشكل قاطع فقال: "أنتم تعرفون جيدا أن التوفي لا يعني غير قبض الروح"، ثم كتب حضرته في الحاشية عند ذلك: "كما أن القاموس يورد أن معنى كلمة التوفي إذا كان الفاعل هو اللهُ I وكان المفعول به إنسانا ينحصر في الإماتة، كذلك استخدم القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته كلمة التوفي بمعنى الإماتة وقبض الروح حصرا، ولم ترد هذه الكلمة في القرآن كله بمعنى آخر". (الأربعين)
ولكن حين تحدّث حضرته عن المعنى المجازي للموت وذكر أنّه لا يُصار إلى هذا المعنى المجازي إلا بقرينة، ظنّ البعض أنّ النومَ من معاني الوفاة، وإنِ اشترطوا وجود قرينة لصرف لفظ الوفاة إلى النوم. لكن هذا ليس دقيقًا، فالوفاة لا تعني سوى الموت، والذي يُصرف للنوم مجازا بوجود قرينة.
وقد تحدّث الامام احمد مرزا علام عن القرينة في أكثر من مكان في كتبه، وكان السياق واضحا في تأكيده على المعنى الأوحد للوفاة، حيث يقول حضرته: "ليكن معلوما أيضا أن فعل "التوفِّي" قد استُخدم في القرآن الكريم من البداية إلى النهاية بمعنى قبض الروح وترك الجسم على حاله. إن حقيقة موت الإنسان هي أن الله تعالى يقبض روحه ويترك الجسد على حاله بفصل الروح عنه. ولكن ما دام النوم أيضا يشترك في هذه الحقيقة إلى حد ما؛ فقد عُبِّر عن النوم أيضًا في الآيتين المذكورتين من قَبْل بـ "التوفِّي" على سبيل المجاز، لأن الروح تُقبض نوعًا ما في حالة النوم أيضا، ويُترك الجسم عاطلا دون أن يكون له أي عمل أو دور. أما في حالة "التوفِّي" الكامل حيث تُقبض الروح على الوجه الأكمل، ويُـترَك الجسم وشأنه، فهي موت الإنسان، لذلك فقد استُخدم فعل "التوفِّي" في القرآن الكريم ليدل على موت الإنسان. والقرآن الكريم مليء بهذا الاستخدام من بدايته إلى نهايته. ولم يُطلَق فعل "التوفِّي" على النوم إلا في موضعينِ اثنين فقط، وذلك أيضا مع ذكر قرينةٍ. وفي هاتين الآيتين أيضا جاء التصريح بوضوح تام أنه ليس المراد من "التوفِّي" هنا النوم، بل المراد هو الموت فقط. وقد أُريدَ التبيان أن النوم أيضا نوع من الموت إذ تُقبَض الروحُ في النوم أيضا ويُترك الجسم على حاله. والفرق الوحيد بين النوم والموت هو أن النوم موت ناقص، والموت الحقيقي إنما هو موت على الوجه الكامل". (إزالة أوهام)
إذن، الوفاة لها معنى واحد، وهو موت الإنسان، وليس لها معنيان.
وقد يُفهم أول وهلة من هذه الجملة: " ولم يُطلَق فعل "التوفِّي" على النوم إلا في موضعينِ اثنين فقط، وذلك أيضا مع ذكر قرينةٍ." أنّ النومَ من معاني التوفي إذا وُجدت قرينة! لكن هذا الفهم ليس صحيحا؛ فهناك فرق واضح بين أن نقول: "يُطلق التوفي على النوم"، وبين "مِن معاني التوفي النوم"، فالأولى صحيحة والثانية خطأ. فليس من معاني التوفي النومُ، لكن يُطلق التوفي والموت على النوم مجازا، أو يسمى النومُ موتًا ووفاةً مجازا.
والسياق يؤكد ذلك، فقد تابع المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام يقول: "وفي هاتين الآيتين أيضا جاء التصريح بوضوح تام أنه ليس المراد من "التوفِّي" هنا النوم، بل المراد هو الموت فقط".
وفي حمامة البشرى قال الامام ما نصّه: "قال بعض المستعجلين إن لفظ "التوفي" قد جاء في القرآن بمعنى الإنامة أيضًا، كما قال الله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتي لَم تَمُتْ في مَنَامِهَا} ، وكما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى}. فاعلم أن الله تعالى ما أراد في هذه الآيات من لفظ التوفي إلا الإماتة وقبض الروح، فلأجل ذلك أقام القرائن، وقال: {وَالَّتي لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا} ، يعني والتي لم تمت بموت حقيقي يتوفاها الله في منامها بموت مجازي. فانظر كيف أشار في هذه الآية إلى أن قبض الروح في النوم موت مجازي. فذكَر لفظ التوفي ههنا بإقامة قرينة المنام تنبيهًا على أن لفظ التوفي ههنا قد نُقل من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، وإشارةً إلى أن معنى لفظ التوفي حقيقةً هو الموت لا غيره. وكذلك أقام قرينةَ قولِه: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} وقرينةَ الليل في آية أخرى.. أعني آية: {هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ.. الخ} ، تنبيهًا على أن لفظ التوفي ههنا ليس بمعنى الإنامة بل المقصود الإماتة، والبعث بعد الإماتة ليكون دليلا على بعث يوم الدين، فلأجل ذلك ذكر بعث يوم القيامة بعد هذه الآية وقال: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعكُمْ} ، ليجعل هذا الموت المجازي والبعث المجازي دليلا على الموت الحقيقي والبعث الحقيقي. فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين. ألا تنظر كيف ذكر لفظ البعث بعد ذكر التوفي وقال: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}؟ ومعلوم أن للنائمين يُستعمل لفظ الإيقاظ لا لفظ البعث، فلو كان مرادًا من لفظ التوفي ههنا الإنامة لقال: هو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يوقظكم فيه، ولكنه تعالى ما قال: ثم يوقظكم فيه، بل قال: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} . فأي دليل أوضح من هذا؟ فإن البعث يتعلّق بالموتى لا بالنائمين. (حمامة البشرى)
ولعل البعض ظنّ من هذه العبارة: "فذكَر لفظ التوفي ههنا بإقامة قرينة المنام تنبيهًا على أن لفظ التوفي ههنا قد نُقل من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي" أن التوفي له معنيان، ولكن هذا خطأ، بل يراد به الحقيقة أحيانا والمجاز أحيانا. وتكملة العبارة تؤكد ذلك بما لا يدع أي مجال للشك، حيث يقول حضرته: "وإشارةً إلى أن معنى لفظ التوفي حقيقةً هو الموت لا غيره".
لذلك فالنص التالي: "إنَّ التَّوَفّي إذا كان من باب التفعُّل، وكان الفاعل هو اللـه أو أحد الملائكة، وكان المفعول بـه (المُتَوَفَّى) صاحب روح، ولم تكن قرينة صارفة؛ كالنوم أو الليل، فليس معناه إلا الموت" ليس تعريفا للتوفي، بل هو تحدٍّ أُطلق للإتيان بأي مثال يخالف هذه الشروط مجتمعةً ولا يعني الموت؛ ذلك أن الآخرين يقولون: إن هناك أمثلةً وردت في القواميس تقول: "توفيتُ منك ديني"، فتجاوزًا لهذا المثال الخاطئ لغويًّا طُلب الإتيان بمثال وفق هذه الشروط ليُسْقَط في أيدي الخصوم من دون جدال في صحة تعبير لغوي من خطئه، فطُلب منهم الإتيان بمثال يكون الفاعل في التوفّي اللـه أو أحد الملائكة، والمفعول بـه (المُتَوَفَّى) صاحبَ روح. وهذا من باب التنازل للخصم، وإلا فلا بد أن يكون الفاعل هو الله أو أحد ملائكته، ولا بد أن يكون المتوفّى بشرا؛ فلا يصح أن نقول: توفيت الشجرة أو البهيمة، بل نقول: "نفق الحمار وطفس البرذون وتنبل البعير وهمدت النار" (فقه اللغة للثعالبي).
وقد قال لامام "لمّا كان الملحوظ في معنى التوفّي مفهوم الإماتة مع الإبقاء (إبقاء الروح)، فلأجل ذلك لا يُستعمل هذا اللفظ في غير الإنسان، بل يُستعمل في غيره لفظ الإماتة والإهلاك والإفناء. مثلاً لا يقال توفَّى اللهُ الحمارَ، أو القنفذ والأفعى والفأر، فإن أرواحها ليست بباقية كأرواح الآدميين". (مكتوب أحمد)
والإضافة الثانية للتحدي والتي ليست ضمن التعريف هي اشتراطُ عدمِ وجود قرينة، فالتوفي يعني الموت مطلقا، ولا يُعلَّق ذلك على شرطِ عدمِ القرينة، ولكن القرينة قد تصرفه من الحقيقة إلى المجاز كما تبيَّن آنفًا.
لقد اكتفى الامام بهذا التعريف الجامع المانع: "التوفي لا يعني غير قبض الروح".
ولكنه أطلق تحديا شمل فيه كل الأمثلة التي استُخدمت فيها التوفي، حتى لو لم تكن استخدامات صحيحة، كأن يقال: "تَوَفَّيْتُ مالي" بدل أن يقال: "استوفيتُ مالي"، وهو الصحيح لغةً. فأضاف في التحدي شرط أن يكون الفاعل هو الله، كما أضاف شرط عدم القرينة، لكنَّ هذين الشرطين ليسا ضمن التعريف الواضح المحدَّد القصير، بل هي ضمن التحدي.
ومما يدلّ على أن لامام احمد مرزا غلام يرفض تعبير: "توفَّيت من فلان ما لي عليه" (الطبري) قوله عليه السلام مخاطبا أحد المشايخ: "ألستَ هو الرجل الذي قرأ عند ذكر بحث التَّوَفّي "تُوَفِّي ما ضمنتَ" استشهادًا، وما علِم فَرْقَ التفعّل والتفعيل غباوةً وعنادًا؟ (مكتوب أحمد).. ويقصد حضرته أن "تُوَفِّي" هي فعل مضارع من وفّى: "فَعَّلَ" وليس من تَوَفّى: "تفعَّلَ". نقول: فَعَّلَ تَفْعيلاً، وتَفَعَّل تَفَعُّلاً. فكلمة: " تُوَفِّي" من وَفَّى: فَعَّلَ تَفْعيلاً التي لا تعنينا.
وقال أيضا: "والعجب من بعض الجهلاء أنهم إذا سمعوا منا هذه الحجة فما قبلوها كالمسترشدين، بل نهضوا معارضين، وقرأوا آية: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} ونحوها نقضًا منهم، ولم يعلموا مِن حمقهم وشدة جهلهم أن هذه الآيات التي يقرأون ردًّا علينا هي كلها من باب التفعيل لا من باب التَّفَعُّل الذي هو محل النزاع". (حمامة البشرى).. أي أن حضرته يقول: نحن نوافق أن معنى "تُوفّى كل نفس" يعني تُعطى أجرها وافيا، لكن هذه كلمة أخرى، وهي على وزن: تُفَعَّل، المبني للمجهول من "وَفَّى": "فَعَّلَ".. ونحن نتحدث عن وزن: "تَفَعَّل" وليس "فَعَّلَ". موضوعنا هو "تَوَفَّى"، وليس "وَفّى" أو "تُوَفّى" التي هي فعل مبني للمجهول من "وفَّى": فعَّل.
ولكن في أمكنة أخرى ردَّ على هذه الشبهة الواهية بطريقة أخرى، حيث لم ينقض هذا الاستخدام الخاطئ لكلمة التوفّي، ولكنه أضاف شرط أن يكون الفاعل هو الله، فيقول حضرته: "إن الأسلوب الشائع والمتداول في القرآن الكريم بالتزام عام هو أنه قد استخدم هذا الفعل دائما وفي كل مرة بمعنى قبض الروح والإماتة. والأسلوب نفسه ملحوظ في كافة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله أيضا. منذ أن عُمرت جزيرةُ العرب في الدنيا وجاءت اللغة العربية إلى حيّز الوجود، لا يثبت من أي قول من أقوال أهلها القديمة أو الحديثة استخدام فعل "التوفي" بمعنى قبض الجسد. بل كلّما استُخدم فعل "التوفّي" بحق الإنسان وكان الفاعل هو الله، فقد جاء دائما بمعنى الإماتة وقبض الروح فقط، وليس بمعنى قبض الجسد قط. ولا يخالف هذا المبدأ أيّ كتاب من كتب اللغة على الإطلاق، ولا يعارضه مَثَلٌ أو قولٌ من أقوال أهل اللغة؛ أي لا توجد أدنى إمكانية لمخالفة هذا المبدأ. وإذا استطاع أحد أن يقدّم من القرآن الكريم أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من أشعار العرب وقصائدهم، أو من منظومهم ومنثورهم القديم أو الحديث استخدام فعل التوفي بحق ذوي الأرواح حين يكون الفاعل هو الله تعالى بأي معنى سوى قبض الروح والإماتة؛ فها أنا أُقرّ قرارا صادقا وشرعيا حلفا بالله جلّ شأنه بأنني سأدفع له ألف روبية نقدا ببيع جزء من أملاكي، وسأعترف أيضا بعلوِّ كعبه في علم القرآن والحديث. (إزالة الأوهام)
ولكن هذا لا يعني أنّ إضافة شرط "أن يكون الفاعل هو الله" أنه ضمن التعريف، بل هذا من باب ردّ حضرته على هذا المثال الذي قالت به بعضُ القواميس وبعض كتب التفسير متأثرةً بتفسير الآية، ومناقضةً استخدامَ العرب والقرآن الكريم لهذه اللفظة التي لا ترد إلا أن يكون الفاعل هو الله أو أحد ملائكته، والمفعول به بشر.. فلم يُرِدْ حضرته أن ينقض هذا الاستخدام لغويًّا في كل مرة، بل استخدم هنا وسيلة أخرى لنقض هذا القول، وملخصُه: "لنفترض صحة هذا الاستخدام، لكننا نتحدث عن مثال التوفي حين يكون الفاعل هو الله لا غيره". والدليل على أن هذا هو قول حضرته هو تأكيده عليه السلام على تعريف التوفي بأنه قبض الروح، وإلا لأضاف هذا الشرط في التعريف في كل مرة، وكذلك تفريقه بين التفعُّل وبين التفعيل.
الخلاصة: التوفي لا يعني سوى قبض الروح والإماتة. وهكذا استُخدم في القرآن الكريم والأحاديث قاطبة.
التحدّي: أنْ يوجد مثال واحد على استخدام التوفي بمعنى غير الموت إن كان الفاعل هو الله والمفعول به بشر، ولم تكن قرينة تصرف المعنى إلى النوم مجازا.. سواء كان هذا المثال في القرآن الكريم أم في الأحاديث أم في القواميس أم في أي كتاب أدبي قديم.
فهذا تحدٍّ وليس تعريفًا، وقد أُضيف فيه هذان الشرطان ليشمل ذلك الأمثلة الخاطئة التي أتت بها كتب التفسير والمعاجم متأثرة بالتفسير الخاطئ للآية.
كتاب قتل المرتد الجريمة التى حرمها الاسلام لمنير ادلبى.
رحم الله كل نفس ....محيدين بن العربى