قراءة تحليلية في الهجمة المسيحية الجديدة (2) ظاهرة الدعاة المسلمين الجدد
كانت المسيحية سباقة في ظاهرة الدعاة الجدد التي بدأت تتسرب إلى العالم الإسلامي والعربي مؤخرا. فقد بدأ هؤلاء الدعاة، الذين لا يرتدون لباس رجال الدين ويخاطبون الناس بطريقة بسيطة سهلة يشوبها المرح والفكاهة أحيانا، إبان اختبار الغرب وتلمسه لأهمية الإعلام ودوره في التأثير على الجمهور. فقد لاحظ الغربيون أن المسرحيات والحفلات الغنائية والأفلام وغيرها تستقطب عددا كبيرا من الناس، كما تعمل على التلاعب بعواطفهم وإضحاكهم حينا وإبكائهم حينا آخر، وبالتالي التأثير عليهم وتوجيه هذه العواطف لأغراض مختلفة. فاستغلوا الفرصة للترويج للمسيحية بهذه الوسيلة التي آتت أكلها بطريقة مذهلة أحيانا.
هؤلاء الدعاة المسيحيون الجدد لم يركزوا على أحقية العقائد المسيحية وصدقها، بل لم يتناولوا هذا الجانب مطلقا. وعندما كانوا يشيرون إلى العقائد إنما كانوا يتناولونها بشكل إعلامي سطحي عاطفي. فأصبح هؤلاء يمسرحون قصة موت المسيح وفدائه للبشرية مثلا، ويحاولون إبكاء الجمهور على ذلك البطل الذي مات لكي يحمل خطاياهم! ولكون بطل المسرحية قد مات لأجل الجمهور، فقد أصبح الجمهور جزءً من هذه المسرحية، مما يجعل تعاطفهم وتأثرهم أكبر بكثير مما لو كانوا يشاهدون معاناة بطل لا علاقة لهم به. هذا التعاطف يترك أثره في إمالة الجمهور تجاه القيم المسيحية وتجاه توحيد المسيحيين ليكونوا مسخرين لمشاريع تخدم أهدافا سياسية أبعد ما تكون عن مبادئ المسيحية أو مبادئ أي دين آخر.
وتاريخيا كان التبشير المسيحي الذي يقوده رجال الدين الرسميون دوما ذراعا للاستعمار من أجل توطيده ثقافيا في البلدان التي يدخلونها. ولكن دور الدعاة الجدد مختلف نسبيا، حيث إنهم مبشرون داخليون يتوجهون للمسيحيين كي يربطوهم بالمسيحية إعلاميا وعاطفيا، وكي لا يكونوا عنصر مناهضة للمشاريع السياسية الخارجية التي لا تقيم وزنا للقيم ولا للأخلاق، وخاصة بعد بروز حركات مناهضة بشكل قوي في تلك البلدان لتلك السياسات، ولكي يكونوا الجبهة الداخلية المساندة لتلك الحملات الخارجية التي بدأت تظهر بصور قديمة جديدة.
المهم أن أبرز سماتهم هو أنهم يبتعدون عن الخوض في العقائد، ويظهرون بمظهر مقرب ومحبب للناس ويشابهون نجوم الإعلام في المظهر، وأنهم يقدمون الأخلاقيات العامة والعلوم والتجارب الإنسانية الحديثة ويحاولون التأكيد على أنها من صلب المسيحية ومن إفرازاتها الطبيعية! هذا مع أن كل الديانات تشترك في جوانب كثيرة في الأخلاقيات والدعوة إلى الارتقاء بها، كما أن العلوم والتجارب الإنسانية هي إرث مشترك ساهم فيه كل شعوب الأرض على عصور مختلفة بنسب متفاوتة.
وبظهور الدعاة المسلمين الجدد، بنفس الأساليب التي اتبعها الدعاة المسيحيون الجدد، أدرك المسيحيون خطورة هذه الوسيلة التي طالما استخدموها لخدمة مصالحهم. وقد أدرك المسيحيون أن تأثير الدعاة المسلمين على عامة المسلمين سيكون أبلغ أثرا، وهذا بسبب ما يمتاز به الإسلام عن المسيحية من عناصر تصلح لهذا العمل الإعلامي وتقدر على إنجاحه بطريقة منقطعة النظير. وكما قلنا سابقا، فقد اتبع هؤلاء الدعاة نفس الأسلوب، فهم لم يخوضوا في العقائد وإنما لجأوا إلى إبراز جمال الإسلام الخارجي. وكان حديثهم عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته يخلب الألباب، وهذا بسبب أن تلك الشخصية هي شخصية حقيقية آسرة لا شك ستترك أثرا في كل من يعرف عنها، فكيف بالمسلمين الذين ينتمون إلى هذا النبي، صلى الله عليه وسلم، ويشعرون أنه منهم وأنهم منه! كما أن التاريخ الإسلامي زاخر بالقصص العظيمة لشخصيات عديدة تترك أثرها في النفوس وتجعل المشاهدين يعيشون معها ويستمتعون، مع إحساسهم بالمشاركة.
كذلك فإن علاقة الإسلام بالقيم والأخلاق الإنسانية السامية علاقة وثيقة، كما أن القرآن الكريم يفيض دائما بالمعارف التي يرى العلماء تطابقا فيها مع العلم. وقد انقسم الدعاة المسلمون الجدد إلى نوعين أساسيين؛ أحدهما يتناول قصص السيرة والتراث والآخر يتناول علاقة القرآن بالعلم أو ما يعرف بالإعجاز العلمي في القرآن. ومع أن القصاصين قد ارتكبوا أخطاء فادحة، إذ خلطوا الغث بالسمين وقصوا قصصا لا تصح، ومع أن العلماء قد وقعوا في أخطاء أحيانا فيما يتعلق بأبحاثهم في الإعجاز العلمي، إلا أن هذه الأخطاء لم تكن لتلفت انتباه عامة المسلمين أو تخفف من اندفاعهم نحوهم. كذلك فإن هذا العمل بدأ يستقطب المسيحيين من العرب أيضا، الذين رأوا جمال سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كما رأوا تقدم القرآن عن كتبهم وتطابقه مع العلوم الحالية. وهكذا، ومع غياب دعاة مسيحيين جدد في العالم العربي، ومع طبيعة الوضع الصعب المنذر بالاندثار للمسيحية في العالم العربي وفي العالم، فقد شعر المسيحيون بخطر داهم. ولذا فلا عجب أنهم قد بدأوا بمهاجمة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم والشخصيات الإسلامية الأخرى، التي كانت مادة القصاصين من الدعاة، إضافة إلى هجومهم على دعاة الإعجاز العلمي في القرآن وأفكارهم.
والحق أن المسيحية محقة في هذا الذعر، وذلك لأن هذه هي الساحة الحقيقية التي يجب أن تركز عليها وتختارها، وهي الساحة التي لا تتناول العقائد وإنما تتجاوزها وتركز على الأمور غير الجوهرية. ذلك لأن المسيحية لو اختارت أن تنزل في ساحة تحقيق العقائد والاستدلال عليها فإنها تدرك أنها خاسرة حتما. المهم أن هذه الساحة هي في الحقيقة ساحة هامشية بالنسبة للإسلام، وإن كانت هي الساحة الوحيدة التي تصلح لعمل المسيحية. وهذا ما سيتضح للمسلمين وللمسيحيين ولو بعد حين.
إن المشكلة الأساسية في المسلمين المعاصرين هي التخبط في مسائل هامة في العقيدة، وتجاوز هذه الأمور لا يمكن أن يقدم حلولا جذرية للمشاكل التي يقع فيها المسلمون. ويكفي التذكر تاريخيا أن تقدم المسلمين كان دوما مرتبط بعودتهم إلى صلب الدين وجوهره، بينما كان الدين المسيحي وبالا على الأمم المسيحية وسببا في تخلفها، وقد حققوا التقدم المادي بعد أن ابتعدوا عمليا عن المسيحية وعن جوهرها وعن عقائدتها. لذلك فإن الابتعاد عن مسألة العقائد وتجاوزها يعد نقطة مفصلية هامة أحسن الغرب المسيحي فيها، بينما تجاوز العقائد في الإسلام وعدم التطرق لها لن يؤدي إلا إلى تفاقم الحال التي وقعت فيه الأمم الإسلامية حاليا، وهي مزيد من التبعية المادية والثقافية للغرب. لقد اجتهد الدعاة المسلمون الجدد في مسعاهم هذا، وظنوا أنهم بذلك يردون الناس إلى دينهم، ولكنهم طالما لا يعالجون الصلب والجوهر فإن عملهم لن يكون جوهريا، ولن يفلح في إحداث تغيير حقيقي، وستستمر الإشكالات الناتجة عن الفساد في الجوهر تطل برأسها، كما ستحول دون أي تقدم ديني أو مادي.
أما ما هي النتائج المرجوة من عمل هؤلاء الدعاة الجدد؟ لا شك أنها قد بدأت تظهر للعيان لكل متدبر. لقد خلق هؤلاء الدعاة جيلا من الشباب والفتيات المتأثرين عاطفيا بالقصص الجذابة دون أن يكونوا على ثقافة كافية في العقائد. كما أن لهؤلاء الشباب موقفا من التطرق للعقائد مدعين أنها تفرق ولا تجمع! وبذلك فهم مخدرون ويتعاملون مع الأمر بسطحية دون أن تتحقق فيهم التزكية الحقيقية التي هي الغرض الأساس من بعثة الإسلام. إن أتباع الدعاة المسلمين الجدد هم نسخة من أتباع الدعاة المسيحيين الجدد ولكن بطابع ومذاق إسلامي. هذا طبعا مع فارق مهم، وهو أن الدعاة المسيحيين الجدد كانوا يخدمون أهدافا مسيحية عامة، بينما قد لا يهدف الدعاة المسلمون الجدد إلا إلى أهداف سياسية محلية، أو في كثير من الأحيان أهداف شخصية تتعلق بنجوميتهم واكتسابهم للأموال باسم الدين. وقد استخدم البعض هذا الجيش من الأتباع لخدمة مشاريعهم الشخصية التي تسعى إلى مزيد من النجومية لهم.
على كل حال، فقد أخطأ المسيحيون الهدف، وقاموا بالهجوم على الإسلام العظيم ظانين أن الدعاة الجدد والمدارس والمؤسسات الدينية المتهالكة التي عفا عليها الزمن هم وحدهم في الميدان، ولذلك استهدفوهم بالهجوم بشكل خاص، وأرادوا أن يؤكدوا على قناعة المسلمين عامة أنهم هم الممثلون الحقيقيون للإسلام. ولكن أخطا ظنهم هذا. فنتيجة عجز المدارس التقليدية والدعاة الجدد وعدم مقدرتهم على الرد، توجه الرأي العام الإسلامي حاليا لكي يترقب ويرى من الذي سيذود عن حياض الإسلام. فبرز هؤلاء الرجال المدافعون الذين كانوا موجودين في السابق، ولكن كانت حولهم غمامة من الكذب والافتراء التي أثارها التقليديون وأصحاب المدارس الفكرية المتهالكة من المسلمين. فعندما سيرون أنهم يحملون الحق وأنهم خير المدافعين عن الإسلام، فسيقترب منهم عامة المسلمين على بينة وعلى علم. وسيرون ما بأيديهم من عقائد إسلامية ثابتة راسخة، وما بأيديهم أيضا من أسلحة تفتك بالعقيدة المسيحية وتكسر الصليب وتقتل الخنزير، ويظهر بهم الله الإسلام على الدين كله. وعندها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
لقد قدم المسيحيون بهجومهم هذا خدمة للإسلام دون أن يشعروا بأن دفعوا الناس نحو الاتجاه الصحيح. فهذه الحملة ستجعل المسلمين يتركون كل الأمور الفاسدة التي لا أصل لها في الدين وسيصحبون أكثر قربا من العقائد والمفاهيم الإسلامية الصحيحة. وكل العمل الذي يقوم به المسلمون سيكون بين يدي الله. فأما كلبد منه فسيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فسيمكث في الأرض. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.