الجنة على الهوية!!
يتصور اليهود أنهم وحدَهم من سيدخل الجنة، ومهما أجرموا فلن يدخلوا النار إلا أياما معدودة؛ فهم شعب الله المختار!! وقد ذكر الله تعالى تصورهم العنصري الظالم فقال {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، وردَّ عليهم سبحانه فورا بقوله {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، ثم قرر سبحانه المبدأ العظيم التالي فقال {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.. هكذا إذن، مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فهو في النار، سواء كان مسلما أم يهوديا أم مسيحيا أم بوذيا أم غير ذلك.
ولكن الفكر الإسلامي الشائع شطب هذه المبدأ القرآني، أو حرّفه، وتمسك بنظرية اليهود، مع استبدال كلمة اليهود بكلمة المسلمين، فقال: نحن المسلمين لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، أو سنوات معدودة، أما غيرنا مِمَّن لم يَقُل "لا إله إلا الله" فسيبقى في جهنم بلا انقطاع. فإذا توفي مسيحي عمره 18 سنة ولم يعمل خيرا ولا شرا، فسيظل في النار بلا انقطاع، أما لو توفي زميله المسلم الذي يشابهه في كل الظروف والأعمال فقد يعذّب فترة محدودة وقد لا يعذَّب، ولكنه سيخلد في الجنة. والسبب أنه قال لا إله إلا الله بعد أن سمعها من أبويه!!
وكأن الآية القرآنية السابقة لا تعترض على فكرة اليهود العنصرية الظالمة، بل تعترض على من تنطبق عليه.. أي كأن الآية تقرّ اليهود على فكرتهم، ولكنها تقول لهم: لستم أنتم، بل من ولد في بيت مسلم هو من لا تمسه النار إلا أياما معدودة.
إن صحّ هذا الفكر الظالم فالدين يورَّث توريثًا، والقضية كلها حظّ.
ولتفنيد هذه الفكرة اليهودية لا بد من أن نعرف أدلتها، ثم ننتقل إلى أدلة تفنيدها.
أسس هذه النظرية عند فقهاء عامة المسلمين:
بالنسبة إلى المعتزلة والخوارج فقد جعلوا مرتكب الكبيرة في النار بلا انقطاع كما هو حال غير المسلم، فهؤلاء نجوْا من تهمة العنصرية والظلم، ولكن تصورهم خطأ من باب آخر، أما فقهاء أهل السنة فقد نظروا إلى الأحاديث التي تشير إلى أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، ولم يتنبهوا إلى سياق هذه الأحاديث ولا الظروف التي قيلت فيها، ولا لمن قيلت. وهذه من أكبر مشاكل الاستدلال بالأحاديث في مثل هذه الأمور التي لا بد فيها من الاستدلال بالقرآن أولا وثانيا وثالثا، ثم لا بأس بالعودة إلى الأحاديث التي توافق القرآن، ولكن فهمهم لهذه الأحاديث يلغي الآية السابقة كليًّا، ويؤكد موقف اليهود، ويُخَطِّئ الله في انتقادهم.
الحقّ أن المسلم محاسب عند الله أكثر من غير المسلم، أقصد: إذا ارتكب مسلم ومسيحي نفس الجرائم في الدنيا، فإن المسلم سيعذَّب عليها عند الله أكثر من المسيحي. والسبب هو أن العدل يقتضي أن يُحاسَب المرءُ حسب ظروفه، فإذا كان ضعيف العقل مثلا فقد يُحكم ببراءته، وإن ثبت أنه لم يسمع بالقانون أو سمع ما يناقضه، أو خُدع وعُلِّم ما يخالفه، فقد يُخفِّف ذلك من العقوبة أو يلغيها. أما مَن سمع بالقانون ثم خالفه جهارا، فهذا مجاهر بالمعصية، وهذا من أشد أنواع المعاصي.
فالمسلم الذي عرف القرآن ولم يتبعه أكبر إثما من غير المسلم الذي لم يعرف القرآن فلم يتبعه. والمصلي الذي يرتكب نفس الجرائم التي يرتكبها غير المصلي أشد إثما. والذي لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له. وابن الرجل المحترم والعائلة المحترمة يؤاخَذ على فعلته أكثر مِن غيره. فالعمل الصالح مقترن بالإيمان، وقد تكررت آية ]الذين آمنوا وعملوا الصالحات[ كثيرا في القرآن الكريم. فلا قيمة للإيمان من دون عمل صالح، بل هو وِزْر بحدّ ذاته، لأن الإيمان من دون عمل صالح يتضمن خيانة للأمانة، أو قُل هو ليس إيمانا ما لَم يُنتج عملا صالحا، فالإيمان شجرة، والعمل الصالح ثمرها، فالشجرة التي لا تنتج ثمرا أولى أن تُقطع. والإيمان الذي لا ينتج عملا صالحا ليس إيمانا، بل شهادة على نفاق صاحبه، والمنافق في الدرك الأسفل من النار.
الأساس الثاني لهذه النظرية هو فهمهم الخاطئ للشرك، واستدلالهم غير الموفق بآية {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}، حيث عرَّفوا الشرك بأنّه أنْ تَعبد غير الله. ومن ثَمّ فإن الله لا يغفر لمن يعبد سواه قط، أما الذي يعبد الله وحده، أو لم يعبد الله ولا غير الله، ولكنه آمَن بالله، فسيغفر الله له.
إن الشرك أوسع مما صوروه لنا في كتب المدارس؛ الشرك هو أن تجعل لله ندًّا. فمن ضحّى من أجل ابنه أكثر من تضحيته في سبيل الله فهو مشرك. ومن نام عن صلاة الصبح متعمِّدًا فقد جعل النوم شريكا لله، ومن نام مع زوجته خلال غزو المعتدين فقد فضّل زوجته على الله، فهو مشرك. ومن لم يتصدق على المحتاجين فقد أحب ماله أكثر من حبه لله، وهذا شرك. باختصار، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}. هناك شرك جليّ، وهو أن تعبد غير الله مع الله، أو أن تعزو أسباب النصر للعتاد بدل الله. وهناك شرك خفيّ يقع فيه كثير من الناس، وهو أن تحب غير الله مثل الله أو أكثر، أو أن ترفع من شأن شخص بحيث تخلع عليه صفات من صفات الله.
فالشرك أنواع عديدة، منها: أن تعتقد أن هناك أكثر من إله يدير الكون، ومنها أن ترى أن الأسباب المادية هي كل شيء، وأن تعتمد عليها من دون الاعتماد على الله، أو تقدِّمها على الله. علما أنها تؤخذ في الحدود التي سمح بها الله، أما الأساس فهو التوكل على الله. ومن أنواع الشرك الاعتقاد بأن غير الله يمكن أن يعين عند الحاجة إن دُعي، كما هو عند الشيعة والصوفية. ومنها السجود والركوع للقبور والأضرحة. ومنها "أن يكنّ المرء تجاه أحد من البشر مشاعر الحب والتعظيم والخوف والرجاء أكثر مما يكنّه لله تعالى أو مِثلَه، وإن لم يقم بأي عمل وثني آخر تجاهه". فهذه كلها من أنواع الشرك.
فهذا الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة. وهذا يقع فيه المسلم كما يقع فيه غير المسلم. فكثير ممن يقولون لا إله إلا الله يقعون في أنواع الشرك هذه كما يقع فيها غير المسلمين.
كيف واجه القائلون بدخول الجنة على الهوية الحججَ المخالفة لهم:
من أهم ما يعارضهم هو نقض الله تعالى لتصور اليهود أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، ثم المبدأ العظيم الذي ذكره الله تعالى وهو قوله ]مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[، ولكنهم بدل أن يعودوا إلى هذا المبدأ الواضح كالشمس شطبوا مضمونه بتفسير السيئة بالشرك، ثم تفسير المشرك بالطريقة التقليدية والتي تتضمن أنه هو كل مَن لم يقل لا إله إلا الله. بمعنى أنهم فرّغوا الآية من مضمونها العظيم، وجعلوها تعني أنكم لستم أنتم يا يهود من تمسه النار أياما معدودة، بل إن المسلمين وحدهم من تمسهم النار أياما معدودة، أما أنتم فإلى الأبد.
أما الأساس الثاني الذي اعتمدنا عليه في رفض فكرتهم فهو العدل، ولكن الفكر التقليدي يعتبر هذه مسألة عقلية، ويرفضها من باب أنها عقلية.
وسأذكر دليلا آخر في نقض فكرتهم، وهو قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، فهذه الآية تذكر أن عقوبة القاتل هي الخلود في النار، مع أنهم جميعا يقولون إن القاتل ليس خالدا في النار، بل سيخرج منها ما دام موحدا. فالسؤال هنا: لماذا عاملوا كلمة الخلود الواضحة هنا بطريقة مختلفة؟ مع أن الآية أضافت إليها غضب الله ولعنه وإعداد العذاب العظيم.
إذا كان المشرك خالدا في النار حسب فهمهم للخلود، فلماذا لا يكون القاتل خالدا؟ وإذا صار القاتل خالدا قِسْنا عليه السارق والزاني والظالم، ثم صرنا بين طريقين: إما أن نقول إنهم جميعا في جهنم بلا انقطاع، وهذا هو قول الخوارج والمعتزلة. وإما أنهم جميعا خالدون في النار، والخلود بمعنى طول المكث، وهذا قولنا. وليس من طريق ثالث. فقول الخوارج والمعتزلة أكثر انسجاما من قول فقهاء السنة في هذه المسألة، رغم خطئه.
الخلاصة: لنلتزم هذا المبدأ العظيم: ]مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[، ولننسب إلى الله العدل بدل الظلم، ولنتخلّ عن عنصريتنا البغيضة وعن غرورنا، ولنتجنب اتباع اليهود الذين لم يقصّ الله علينا قصتهم إلا من أجل تجنّب الاقتداء بهم.
ولكن، هل يقبل الله العمل الصالح من دون إيمان؟ الجواب: إنْ عملَ المرءُ صالحا من دون أن يسمع بالنبيين وبرسالة الله التي حملوها، فأجره عظيم على عمله الصالح. أما إنْ سمع بالأنبياء ولم يأبه بهم ولا برسالاتهم، فليس عمله صالحا قط، بل أكبرُ شرٍّ من شروره هو إعراضه عن رسالة الله ورسله الأطهار، وليس بعد هذا الشرِّ شرٌّ. ومن كان هذا حاله، فكيف يُرجى منه عمل صالح؟ هذا إن كان مجرَّد مُعرِض، فكيف لو كان معاندًا لرسل الله ومحاربًا؟!